ورد التَّعبير عن “السُّنن الإلهية” بصيغ ثلاثة في القرآن الكريم:

أولها: صيغة المفرد مع نسبتها إلى المولى عزَّ وجلَّ : “سنَّة اللَّه”. وقد وردت هكذا في ثلاثة مواضع تكرَّرت فيها اللفظة في موضعين، ووردت بصيغة المفرد مرَّة واحدة في الآية رقم (38) من سورة الأحزاب : (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّـهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا). أمَّا الموضعان الآخران اللذان تكرَّرت فيهما اللفظة مرَّتين؛ فهما:

قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا).[الأحزاب: 62] و(سُنَّةَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا).[الفتح: 23]

ثانيها: التَّعبير بصيغة المفرد مع نسبة السُّنن إلى الأمم التي خلتْ من قبل، “الأولين”، أو الرُّسل. كقوله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).[الأنفال: 38]، وقوله: (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا).[فاطر: 43]، وقوله أيضا: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا).[الإسراء: 77]

ثالثها: بصيغة الجمع “سُنَن”؛ وذلك في موضعين: الأول هو قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).[آل عمران: 137] والثاني قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).[النساء: 26]

وكما هو ملاحظ؛ فإنَّ المواضع كلَّها تتعلق بالحديث عن الأمم السَّابقة من جهة، وتؤكِّد حتمية السَّنن الإلهية وعدم خضوعها للتَّبديل أو التَّغيير من جهة أخرى. فسواء تعلَّق الأمر بـ [1] الجانب التَّشريعيّ الخاص بالنَّبي صلى الله عليه وسلم؛ كما يتَّضح من سياق الآيات السَّابقة على النموذج الأول: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّـهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ مَفْعُولًا).[الأحزاب: 37]، أو بـ [2] المنافقين؛ كما في سياق الآيات السَّابقة على النموذج الثاني: (لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا).[الأحزاب: 60-61]، أو بـ [3] تشريع القتال دفاعا عن النَّفس؛ كما يتَّضح في سياق الآيات السَّابقة على النموذج الثالث: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).[الفتح: 22] – فإنَّ النتيجة لا تتغيَّر في الأحوال كلِّها؛ سواء تمَّ التَّعبير عنها بصيغة الفعل الماضي؛ دلالة على وقوع القدَر المقدور: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا)، أو بالصِّيغة الجازمة الدَّالة على سريان قانون “السُّنن الإلهية” في الحاضر والمستقبل، كما في الماضي: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا).

والواقع أنَّ الآيات القرآنية تنقسم من حيث الدَّلالةُ إلى قسمين: آياتٌ قطعيَّة الدَّلالة، وآياتٌ ظنيَّة الدَّلالة، والآياتُ الواردة في السُّنَن – فيما يؤكد الدكتور مجدي عاشور- هي من القِسم الأوَّل؛ سواء منها ما كان يتحدَّث عن السُّنَن بالجملة، وكذلك الآياتُ التي تتحدَّث عن السُّنن تفصيلاً؛ حيث إنَّها مبنيَّة على التَّكرار وإعطاء النَّظير حُكمَ نظيرِه، والتَّسوية بين الـمُتماثلين، ومِن ثَمَّ كان الاستدلالُ بالسُّنَن الإلهيَّة قطْعيّ الدَّلالة؛ مما يؤدِّي إلى قطْعيَّة الاعتبار. وهذا الأمر يؤكِّد أهمية القراءة السُّنَنيَّة لكتاب اللّه عزَّ وجلَّ؛ لكونِها تُشدِّد على البناء الكُلِّي الحضاريِّ الذي دعا القرآنُ إلى تشييده وإقامته، وتجاوُزِ القراءة التَّجزيئيَّة التي غلبَتْ على كثيرٍ من الدِّراسات القرآنية القديمة والمعاصرة.

أمَّا فيما يتعلَّق بالسُّنن الإلهية في مشروع الإمام محمَّد عبده التَّجديدي؛ فيكفي أن نذكر أن “الاعتبار بسُنَن اللّه في الخلق” هو الأصل الرَّابع من أصول الإسلام في نظر الإمام، والتي أجملها في ثمانية أصول نذكر منها:

– النَّظر العقلي لتحصيل الإيمان

– تقديم العقل على ظاهر الشَّرع عند التَّعارض

– البُعد عن التَّكفير

– الاعتبار بسُنَن اللَّه في الخلق

– قلْب السُّلطة الدِّينية…إلخ.

فالسُّنن هي “الطَّرائق الثابتة التي تجري عليها الشُّؤون، وعلى حسبها تكونُ الآثارُ. وهي التي تُسمَّى شرائع أو نواميس، ويُعبِّر عنها قومٌ بالقوانين. والذي ينادي به الكتاب أنَّ نظام الجميعية البشرية، وما يحدث فيها، هو نظامٌ واحدٌ لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وعلى مَنْ يطلب السَّعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النِّظام حتَّى يردَّ إليها أعماله، ويبني عليها سيرته، وما يأخذُ به نفسَه. فإن أغفل عن ذلك غافلٌ فلا ينتظر إلا الشَّقاء؛ وإن ارتفع إلى الصَّالحين نسبُه، أو اتّصل بالمقرَّبين سببُه”.

ضمن هذا السِّياق يمكننا أن نتفهَّم مركزية السُّنن الإلهية في تضاعيف تفسير المنار حيث أكَّد الإمام في مقدِّمته أنَّ “للتفسير مراتب: أدناها أن يُبيِّن [التَّفسرُ] بالإجمال ما يُشْرِبُ القلبَ عظمةَ اللَّه وتنزيهه، ويَصْرفُ النَّفسَ عن الشرِّ ويجذبها إلى الخير…

وأمَّا المرتبة العليا؛ فهي لا تتمُّ إلا بأمور:

أحدها فهْمُ حقائق الألفاظ المفردة التي أُودِعها القرآن.

ثاينها: الأساليب …

ثالثها: علمُ أحوال البشر؛ فقد أنزل اللَّه هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبيَّن فيه ما لم يبينه في غيره. بيَّن فيه كثيرًا من أحوال الخلْق وطبائعهم، والسُّنَن الإلهيَّة في البشر، وقصَّ علينا أحْسَنَ القَصَص عن الأمم وسِيَرِها الموافقة لسنَّته فيها. فلا بدَّ للناظر في هذا الكتاب من النَّظر في أحوال البشر في أطوارهم، وأدوارهم، ومناشِئ اختلاف أحوالهم، من قوَّة وضعف، وعِزٍّ وذُلٍّ، وعِلْم وجهل، وإيمان وكُفْر، ومن العلْم بأحوال العالَم الكبير: عُلْويه وسُفْليه، ويَحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمِّها: التَّاريخ بأنواعه”.

والواقع أنَّ علم التَّاريخ، وعلم العُمْران، يحتلان مكانة مهمَّة ضمن تضاعيف “تفسير المنار”؛ بل وفي القرآن الكريم نفسه. وليس أدل على ذلك من الحضور الطَّاغي لآيات السُّنن في القرآن الكريم لدرجة أنَّ “ثلاثة أرباع القرآن تقريبا قَصَص، وتوجيهٌ للأنظار إلى الاعْتبار بأحوال الأمم، في كُفْرِهم وإيمانهم، وشقاوتِهم وسعادتِهم، ولا شيءَ يهْدي الإنسان كالْـمَثُلَات والوقائِع. فإذا امتثلنا الأمرَ والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السَّالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وغير ذلك مما يعرض للأمم – كان لهذا النَّظر أثرٌ في نفوسنا يَحْمِلُنا على حُسْن الأسْوة والاقتداء، وتجنُّب ما  كان سبب الشَّقاوة أو الهلاك والدَّمار.

ومن هنا ينْجلى للعاقل شأنُ علم التَّاريخ وما فيه من الفوائد والثَّمرات، وتأخذه الدَّهْشة والحيْرة إذا سمع أنَّ كثيرًا من رجال الدِّين من أُمَّةٍ هذا كتابُها يُعادون التَّاريخ باسم الدِّين، ويُرغِّبُون عنهُ، ويقولون: إنَّه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يُدْهَشُ ويحارُ والقرآن يُنادي بأنَّ معرفة أحوال الأمم من أهمِّ ما يدعو إليه هذا الدِّين؟”.