مع انتصاف القرن التاسع عشر بات جليا أن حركة الإصلاح الإسلامي التي أخذت تلوح في الأفق قبل قرن من الزمان قد بلغت ذروة نضجها وتبلورها، وأصبحت تيارا فكريا شمل معظم بقاع العالم الإسلامي، وصارت له أفكاره الخاصة التي تدور حول كيفية تحقيق النهضة، وإلى هذه الحركة ينتسب الشيخ طاهر الجزائري (1852/1920م) الذي يعد علما من أعلامها.

السيرة الذاتية والآثار الفكرية

ولد الشيخ طاهر بن صالح بن أحمد بدمشق عام (1268ه/ 1852م)، نزحت أسرته من الجزائر وقدمت إلى الشام عام 1263ه، وهي أسرة معروفة بالعلم والفضل فتولى أبوه قضاء المالكية بدمشق واستقر بها، ورزق بابنه طاهر بعد خمس سنوات من الإقامة بها.

نشأ الشيخ طاهر الجزائري في كنف والده وتلقى على يديه مبادئ اللغة العربية والعلوم الدينية، ثم أدخله والده احدى المدارس الابتدائية، وبعدها التحق بالمدرسة الجقماقية الاستعدادية (الإعدادية) ودرس بها العربية والفارسية والتركية ومبادئ العلوم، وتخرج على يد الشيخ عبد الرحمن البوشناقي، ثم اتصل بأستاذه عبد الغني الميداني وهو أحد علماء الشام المعروفين وتأثر بأفكاره، وفي هذه الأثناء التحق بمدرسة ثانوية تعرف خلالها على العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخ والفلك والآثار على يد بعض المدرسين الأتراك، وأغلب الظن أن اهتمام الشيخ بتعلم اللغات كان عظيما فلم يكد يبلغ الثلاثين من عمره حتى كان يتقن العربية والفارسية والتركية وأضاف إليها الفرنسية والسريانية والعبرية والبربرية.

خدم الشيخ طاهر الجزائري دمشق وأهلها قرابة ثلاثة عقود (1878-1907) حيث اشتغل مدرسا ومفتشا للمدارس وعين عضوا بالجمعية الخيرية، ومكث حتى ضيق عليه واقتحمت السلطات داره وفتشتها، وعندئذ رحل إلى مصر خفية عام 1907 ومكث بها ثلاثة عشر سنة كان موضع تقدير حكامها ورجال الرأي بها، ويذكر لنا الشيخ في إحدى كناشاته المحفوظة بالمكتبة الظاهرية أنه التقى الخديو عباس حلمي عام 1328ه وقدم له اقتراحان يفيدان نهضة مصر العلمية وهما: إنشاء مدرسة للغة العربية تقصد من كل جهة بالقطر، وإنشاء دار للترجمة تعكف على ترجمة أمهات الكتب العلمية والمهمة من اللغات المختلفة[1]، وعاد الشيخ إلى دمشق بعد اعتلال صحته عام 1919، وعين عضوا بالمجمع العلمي العربي وتوفي بعد أشهر قلائل في العام التالي.

ترك الشيخ جملة تآليف ورسائل بعضها مطبوع وبعضها لم يزل مخطوط وأعني بها كناشاته المخطوطة بالمكتبة الظاهرية والتي قدرها الأستاذ عبد القادر المغربي بأنها ربما تبلغ إحدى عشر مجلدا إذا جمعت، أما مؤلفاته المطبوعة فهي على شاكلتين:

  • مؤلفات وضعها في صدر حياته لفائدة الناشئة والتلاميذ في زمن كانت الكتب المدرسية في حكم المعدوم، لينهض بالتعليم ويخلص الناشئة من حواشي المتأخرين وشروحهم المطولة، ومن أمثلتها: الجواهر الكلامية في العقائد الإسلامية، ومنية الأذكياء في قصص الأنبياء، ومدخل الطلاب إلى فن الحساب.
  • مؤلفات متخصصة وضعها في مرحلة متأخرة من حياته وظهرت فيها شخصية الشيخ العلمية ولباب علمه، ومن أهمها: تفسير القرآن الكريم (4 مجلدات) صدر بعد وفاته، والتبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن وهو المقدمة الصغرى لتفسيره، وتوجيه النظر إلى أصول الأثر وهو كتاب في مصطلح الحديث.

ومن طريف ما يذكره الأستاذ كرد علي أن الشيخ كان في مذهبه الديني أقرب إلى الاجتهاد لكنه في مذهبه التأليفي كان أقرب إلى التقليد يقتفي أثر مذاهب القدماء ولكن بتنسيق وتقسيم بدون أن يشوش على القارئ[2].

الأنشطة العلمية والاجتماعية

بدأ الشيخ طاهر الجزائري نشاطه العلمي معلما بالمدرسة الظاهرية الابتدائية عام 1878 ولم يزل في السادسة والعشرين من عمره، وأخذ الشيخ طاهر الجزائري يبث فلسفته الإصلاحية وأفكاره في نفوس التلاميذ، ويمكن إيجاز جهوده الاجتماعية خلال هذا العهد على النحو التالي:

  • الجمعية الخيرية الإسلامية، وهي أعم أعماله وشرع في تأسيسها عام 1878 بمعاونة  الشيخ علاء الدين بن عابدين، وجاء إنشائها بغرض توفير المدارس الوطنية التي تقوم بتعليم اللغة العربية والمبادئ الإسلامية في مواجهة مدارس الإرساليات الأجنبية التي اضطر الأهالي لإدخال أبنائهم فيها، ثم صارت الجمعية (ديوان معارف) دمشق، وعين الشيخ طاهر مفتشا عاما على المدارس الابتدائية، وإليه يعود الفضل في تأسيس ثمانية مدارس للذكور ومدرستين للإناث في العام التالي لإنشائها[3]، ويذكر تلميذه الأستاذ كرد علي أنه هو من صاغ برامجها التعليمية ووضع لها الكتب اللازمة[4].
  • المكتبات العامة: عني الشيخ منذ نعومة أظفاره باقتناء الكتب والمخطوطات واشترى كثيرا منها في صباه وشبابه بمبالغ زهيدة، ولما كبر أدرك حاجة المسلمين إلى إنشاء مكتبات عامة تضم شتات المخطوطات والكتب النادرة وتحفظها للأجيال القادمة، ومن أعماله في ذلك إنشاء (المكتبة الظاهرية) الشهيرة وقد جمع لها آلاف المخطوطات من المدارس الإسلامية المتناثرة ومن الدور الخاصة في المدن السورية، كما كان له فضل إنشاء (المكتبة الخالدية) بالقدس التي حوت مكتبة آل الخالدي وكتبا أخرى.
  • الحلقة العلمية: لم يقنع الشيخ كثيرا بأن إلقاء الدروس الدينية والخطب بالمساجد يكفي وحده لنشر فلسفته في تحقيق الإصلاح الإسلامي، ورجح لديه أن الحلقة الفكرية المغلقة أو الصالون الثقافي الذي ينعقد في أحد البيوتات ويضم بعض المثقفين والشباب الراغبين في الإصلاح ربما يؤتي ثمارا أفضل، وكان هذا منشأ حلقة الشيخ الفكرية التي تأسست مع الجمعية الخيرية لتدعو إلى تعلم العلوم العصرية، ومدارسة تاريخ العرب، والتمسك بمحاسن الأخلاق الدينية، والأخذ بالصالح من المدنية الغربية، وقد اجتذبت هذه الحلقة إليها خيرة شباب ومصلحي أهل الشام من أمثال: جمال الدين القاسمي، محمد كرد علي، محب الدين الخطيب، عبد الرازق البيطار، وعبد الحميد الزهراوي وغيرهم[5].
  • المطبعة الوطنية: وهي إحدى مآثره حيث كان وراء إنشاء المطبعة الحكومية التي نهضت بعبء طباعة المنشورات العامة والكتب المدرسية[6].

عناصر الرؤية الإصلاحية

يتبين من خلال إنجازات الشيخ وإسهاماته أنه صاحب مشروع إصلاحي متكامل يضم عناصر عديدة، ومن أوضحها:  

  • أولية التعليم والتربية: اعتقد الشيخ الجزائري أن التعليم هو حجر الزاوية في تحقيق النهضة الإسلامية، وجل أعماله يندرج ضمن هذا السياق من تأسيس الجمعية الخيرية، وإنشاء المدارس، ووضع الكتب الدراسية، وللشيخ سياسة تعليمية خاصة تقوم علي: إدخال مبادئ الصنائع إلى المدارس الابتدائية، بل ذهب إلى ما هو أبعد حين افترض أن طلاب الشريعة أحوج إلى تعلم ذلك لأنها تغنيهم عن الناس وتكفف الأعيان وولاة الأمر وتحول بينهم وبين تناول الأوقاف والتكالب على وظائف القضاة[7]، وإدخال التربية العملية والسلوكية إلى المدارس وعدم الاقتصار على التلقين النظري للعلوم، وأخيرا ممارسة الرياضة البدنية لتعويد الطلاب على العناية بأجسادهم وتعهدها بالرعاية.
  • الانفتاح الإيجابي على الغرب: آمن الشيخ أن تجاوز المأزق الحضاري لا يتأتى بدون الانفتاح على الغرب ومدنيته، ولأجل هذا دعا تلامذته إلى تعلم اللغات الأجنبية قائلا لهم: تعلموا كل ما يتيسر لكم تعلمه، ولو لغة مالطة، فقد يجيء زمان تحتاجون إليها، وإياكم أن تقولوا أنها لا تدخل في اختصاصنا، فالعلم كله نافع، والمرء يتعلم ما حسنت به الحياة”[8]. وحين أثيرت قضية الاقتباس من الغرب كان من رأيه ” إن الاقتباس من الأمم المترقية دليل على النباهة لا كما يظن البُله من أن في الاقتباس غضاضة، ونريد بالاقتباس ما يشعر به اللفظ من تلقي الأمور النافعة لا كما يظنه المتكايسون من أن الأمم الراقية ينبغي أن يؤخذ منها كل شيء، حتى أداهم الأمر أن يقلدوهم في الأمور التي يودون هم أن يتخلصوا منها”[9]، وهكذا اتسع صدره لجماع المدنية الحديثة إلا الموسيقى والتمثيل فإنه كما يقول محمد كرد علي لم يكن له نصيب فيهما، وربما قاوم المشتغلين بهما سرا مخافة أن تكون سلمًا إلى التبذل وخلع ثوب الحياء.
  • إصلاح العوائد المحلية: وجه الشيخ عنايته إلى إصلاح العادات ومحاربة الخرافات والمبتدعين، ولكنه كان يميز بين عادات مضرة تدفع الناس إلى الإيمان بالخرافة والخمول، وعادات مفيدة ينبغي الحفاظ عليها، وأسلوبه في معالجة ذلك لا يميل إلى التنكيت والشدة، كما هو الحال مع رشيد رضا، وإنما يستعمل مجرد البيان الدال على حسن العادة أو قبحها.
  • المرونة المذهبية: كان الشيخ مسلما نقيا يميل إلى أخذ الدين من مصادره الأولية باجتهاده الخاص دون تقيد بمذهب معين، لكنه مع هذا كان” يحسن ظنه بأئمة المذاهب ويتجهم لمن يجرأُ على النيل من أحدهم، ويعمل بما صح له من الدليل في الكتاب والسنة، ولطالما أعطى الحق لعلماء الشيعة أو الإباضية أو المعتزلة في مسائل تفردوا بها” ولم يتابعهم فيها أهل السنة[10]، وكثيرا ما كان يدعو أتباعه إلى بث روح التسامح بين فرق الأمة كالشيعة والباطنية ووصل ما انقطع من العلائق معهم.
  • التسامح مع أتباع العقائد الدينية: أقام الشيخ بسوريا دهرا طويلا وهناك أبصر طوائف دينية عديدة تختلف في معتقداتها وأفكارها وعوائدها، وكانت له اتصالات بالأرمن واليهود والكاثوليك والبروتستانت، ويقال أنه جمعته بمطران السريان صداقة وطيدة، وكان الشيخ يغض الطرف على الانتقادات التي يوجها إليه بعض المتعصبين ذاهبا إلى أن رجال الدين هم أقرب الناس إلينا لاعتقادهم بالله واليوم الآخر وخلود النفس[11].

وبالجملة؛ يمكن القول أن رؤية الشيخ الجزائري الإصلاحية لم تخرج عن ضرورة الجمع بين ثقافة العصر وثقافة الدين، وهذه الطريق تطول لكنها كما يقول مأمونة العاقبة والسلامة فيها متحققة.


[1] حازم زكريا محيي الدين، الشيخ طاهر الجزائري (1268-1338ه/ 1852-1920م) رائد التجديد الديني في الشام في العصر الحديث، دمشق: دار القلم، 2001، ص 55-56.

[2] محمد كرد علي: المعاصرون الشيخ طاهر الجزائري (1)، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، تشرين أول 1928/ جمادى الأولى 1347ه، مج 8 ج1، ص 666-667.

[3] حازم زكريا محيي الدين، المرجع السابق، ص 34-35.

[4] محمد كرد علي، المعاصرون (1)، ص 579.

[5][5] مصطفى الشهابي، من ذكريات الحركة القومية العربية: حلقة الشيخ طاهر الجزائري، القاهرة: مجلة الجمعية التاريخية المصرية، 1957، مج 6، ص 3.

[6] حازم زكريا محيي الدين، ص 37.

[7] محمد كرد علي، المعاصرون (1)، ص 558.

[8] حازم زكريا محيي الدين، ص 96.

[9] محمد كرد علي، المعاصرون الشيخ طاهر الجزائري (2)، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، 1928، مج 8، ع 11-12، ص 670.

[10] محمد كرد علي، المعاصرون (1)، ص 581.

[11] نفسه، ص 586.