حثَّ الله عزوجل الإنسان في القرآن الكريم على التفكر والتمعن في خلق السماوات والأرض وما فيهن من الخلائق بأشكالها وأنواعها؛ وذلك لترسيخ الإيمان وتعميقه في نفوس البشر، وأن يحرصوا على زيادة الإيمان بالخالق سبحانه، ثم بكتابه؛ ليتخذوه دستوراً لحياتهم، ويزخر القرآن الكريم بالآيات التي لها دلالات علمية واضحة – وإن شكك المشككون وطعن الطاعنون – والتي لم تتجلَّ إلا في العصر الحديث، عصر التجربة، والآية التي نحن بصددها مثل على هذا الإعجاز، يقول تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ (يس: 80)

إنَّ علم الله تعالى محيط بجميع مخلوقاته، من جميع أحوالها وفي جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات وما يبقى، ويعلم الغيب والشهادة، فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم، علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم، وإنّ الشجر إذا قطع وأصبح حطباً يكون ميتاً وليس فيه أثر للحياة، فإذا أوقدت به النار دبت فيه الحركة واضطرب، وهذه آثار الحياة، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل في موضعين من كتابه سبحانه وتعالى:

– قال الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ﴾ (الواقعة: 71 ـ 72).

– قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 77 ـ 83).

فردَّ بهذه الآيات على من أنكر البعث بثلاثة أدلة عقلية:

أ ـ الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾(يس : 79).

ب ـ الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر: مع أنه أكثر بالضدية لأن الشجر إنما يكون أخضر إذا كان مليئاً بالماء، فمن قدر على إخراج النار من هذا الشجر الميت المليء بالماء قادر على إحياء الأموات من قبورهم، قال تعالى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴾.

فالذي خلق النبات الأخضر وأنشأ به النار قادر على كل شيء، فالربط بين الشجر الأخضر والنار معجزة علمية، والربط بين الشجر والاخضرار معجزة كبرى، فإن غاب الشجر غابت النار والطاقة من على الأرض، وإن غاب الاخضرار من النبات هلك الزرع  والشجر واختفى المصدر الرئيس للطاقة الحيوية على الأرض، فالطاقة الحيوية مصدرها الأصلي الشمس والمثبت الرئيس للطاقة على الأرض هو النبات (الشجر)، حيث تسقط أشعة الشمس بضوئها وحرارتها على الأرض فترتفع درجة حرارة اليابسة والماء، ثم بعد غياب الشمس تفقد اليابسة ويفقد الماء حرارتيهما.

المهم في القضية هنا أن النبات الأخضر (الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) هو الذي يحول الطاقة الشمسية الضوئية إلى طاقة كيميائية مخزنة في جذور وجذوع وأوراق وثمار النبات، التي بإشعالها تتحرر تلك الطاقة على هيئة نار يستعملها الإنسان في شتى الاستعمالات المنزلية والصناعية والحياتية، ولذلك ضرب الله تعالى بها المثل المادي العلمي المحسوس المبين لقدرته ومقدرته وعلمه القادر وحده على خلق الإنسان من العدم وإعادة بعثه بعد تحلله.

إن إخراج النار من الشجر الأخضر إعجاز علمي؛ وذلك لأن أهل البادية فهموها من قبل ألف وأربعمائة سنة بالخشب أو الحطب أو بشجرتي المرخ والعفار، ونحن نفهمها اليوم في إطار كل صور الطاقة ذات الأصل العضوي من كل الفصلات النباتية والحيوانية مثل التين والقش، والحطب والخشب إلى الفحم النباتي، والفحم الحجري والغازات المصاحبة له، إلى الطَّفلة الزيتية إلى النفط والغازات المصاحبة له.

وكل هذه المصادر للطاقة يلعب الدور الرئيسي في تكوينها الشجر الأخضر وما وهبه الله تعالى من قدرة على احتباس جزء من طاقة الشمس يعينه على تحليل الماء إلى مكوناته الأساسية: الأيدروجين والأكسجين، فيطلق الأكسجين ويحتفظ بذرات الأيدروجين، كما يعينه على تحليل ثاني أكسيد الكربون (الذي يمتصه النبات من الغلاف الغازي للأرض) إلى مكوناته الأساسية الكربون، الأكسجين، فيحتفظ بذرة الكربون ويطلق الأكسجين إلى الجو، ثم يربط ذرات الكربون والأيدروجين بروابط كيميائية على هيئة سلاسل الكربوهيدرات المختلفة السكر بمختلف أنواعه، النشأ، السيليلوز وغيرها، التي تشكل كل أجزاء النباتات وثمارها ومحاصيلها التي يقتات عليها الإنسان وكثير من الحيوانات آكلة الأعشاب.

وعلى ذلك، فإن حركة الطاقة على الأرض تتلخص في تبادل ذرة الكربون بين الهواء والنبات والحيوان والإنسان، يأخذها النبات من الغلاف الغازي للأرض بعملية التمثيل الضوئي ويهبها لكل من الحيوان والإنسان، ثم يعاود كل من النبات والحيوان والإنسان إطلاقها إلى الغلاف الغازي للأرض بعمليات التنفس، وبين عمليتي أخذ ثاني أكسيد الكربون من الجو وإعادة إطلاقه إليه يختزن لنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ كمَّاً هائلاً من الجو، وإعادة إطلاقه إليه يختزن لنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ كمَّاً هائلاً من ذرات الكربون ليشكل مختلف مصادر الطاقة التي يحرقها الإنسان فيردها مرة أخرى إلى الغلاف الغازي للأرض، وهذه الدورة لم تكتشف إلا مؤخراً، وورود الإشارة إليها في القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة سنة لمّما يقطع بأن هذا الكتاب العزيز لا يمكن أن يكون صناعة بشرية.

 

 


مراجع البحث:

1 – علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص.ص (149 – 150).

2 – د. زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (النبات)، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004م، ص 312.

3 – عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) ، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420هـ -2000م ، 6/14.