تحتاج الأمة المسلمة –دوما- أن تجدد وعيها بالسنن الحضارية في النهوض والإنحدار، وأن يخرج وعيها من التمسك البليد بالخوارق، إلى السير في ضياء السنن الإلهية والكونية[1]، فالكون مسخر للإنسان شرط أن يفقه سننه، ويسير غير متصادم مع نواميسه الغلابة القاهرة، ومن أبرزها إدراك عوامل الصلاح والفساد.

 

وفي هذا الإطار يأتي صدر العدد (63) شتاء 2019 من مجلة “التفاهم” الفصلية الفكرية العمانية، في (392) صفحة، وتتناول ملفا بعنوان “الصلاح والفساد في الإنسان والعمران” استعرضت فيه الرؤية القرآنية للصلاح والفساد في الإنسان والعمران من خلال عدة اقترابات منها: الوعي السنني في النهوض والسقوط الحضاري، والفساد البيئي في الرؤية الإسلامية، وأزمة البيئة والتحديات الأخلاقية، ومستقبل الإنسان في ظل الثورة البيو-تقنية، وعبودية الآلة وتأثيرها على المصائر الإنسانية.

الصلاح والتدبير

للصلاح أركان، منها: إدراك العقل للصلاح تفكرا وبديهة، والتوصل إليه بالدليل من الكتاب والسنة والاقتداء بأعمال الصالحين، ثم توفيق الخالق، سبحانه، وهدايته وعنايته، لأن صلاح الفرد مقدمة لصلاح المجتمع، وصلاح المجتمعات يستدعي مهمة الاستخلاف التي كُلف بها الإنسان، وأولى مهما الاستخلاف هي الصلاح والإصلاح للفرد والعالم، وتذهب الرؤية الإسلامية “أن صلاح العالم وإعماره هو عمل عقلي وتدبيري”، فالاستخلاف ليس منحة للإنسان، ولكنه تكليف.

والعمران قوامه العقل والتدبير والسنن، ومن عوامل الاختلال في العمران سيطرة نخبة قليلة على المجتمعات وانتهاجها  السبيل الخاطيء في التفكير والسلوك، والفساد إذا حدث في مسار الإنسان وسيرته فإنه يتفاقم ويظهر في المجتمع وفي العمران، ومن عوامل الفساد في المجتمعات الاختلال الناتج عن التطورات الهائلة في الجوانب المادية في العمران، والتي لا يوازيها تطورات مماثلة في القيم والأفكار، فتقع الخلخلة والفوضى،  كذلك ظهور سبل جديدة في التواصل لم يعتدها الناس فينتج عنها خلل في العقليات والقيم وقلق في الذهنيات والأعراف، وضغط على العمران والإنسان، ومن ثم فالاختلال يحدث بفعل الإنسان، إما بفساد الفطرة أو البديهة أو فساد التركيب الثقافي والحضاري، لذا فالصلاح والإصلاح هو مسؤولية الإنسان كذلك.

وهناك فارق بين الحضارة والثقافة، فالحضارة هي الجانب المادي الظاهر من العمران، أما الثقافة فهي الجانب المعنوي والإبداعي، ومن الواجب أن يشمل الصلاح كلا من الحضارة والثقافة، والقرآن الكريم يؤكد أن فتنة الفساد لا تقف عند حدود الفاسدين والمفسدين، ولكن تتعداهم إلى المجتمعات والبيئات، لذا قال تعالى:” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”[2] فالفساد عمل كسبي، أما الصلاح فينطلق وفق الرؤية القرآنية من الذات أولا ثم إلى الدوائر المتعددة المحيطة بها، قال تعالى:” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ “[3].

والرؤية القرآنية تربط بين الصلاح والفساد وبين السنن الإلهية والكونية، فالانحطاط لا يعني سوى مخالفة السنن، وإذا كان للانحطاط صور شتى فإن من سنن الإصلاح ديمومة البحث عن فقة جديد للتغيير، وتكمن مشكلة المسلمين في القرنين الماضيين أنهم ربطوا نهوضهم بالتجربة الغربية، فرأى الكثير من المصلحين أن السير على نفس الخطى الغربية في النهوض، سيقود إلى نهوض إسلامي مماثل، لكن الحقيقة أن المشروع الغربي، رغم تطوره الكبير في العالم المادي، فإنه مشروع يعاني من أزمات مخالفة السنن، وبخاصة السنن الشرعية، والتي تقود مخالفتها إلى أزمات مستعصية في المجتمعات، فليست مخالفة السنن الكونية لها ضريبة قاسية، ولكن مخالفة السنن الشرعية تؤدي مخالفتها إلى عقوبات مجتمعية وبيئية.

ومن يتابع الحضارات المنهارة يلحظ أن بعضها سقط رغم تفوقه في جانب العمران، إذ جاءه العطب من جانب مخالفة السنن والأوامر الإلهية والدينية، فـ”العباقرة المخترعين يعجّلون سير الحضارة، لكن المتعصبين والمهووسين هم الذين يخلقون التاريخ”، كما يقول “غوستاف لوبون” في كتبه “السنن النفسية لتطور الأمم”، والتاريخ في أغلب مراحله لا يبعث على الطمأنينة لكثرة الأشلاء على صفحاته، والدمار الناجم عن تعاظم القوة المادية وتراجع الضابط الأخلاقي وغياب العدل.

ومن الواجب أن تتأسس المشاريع الإصلاحية على دعائم منها: أن يكون الإصلاح اختيارا مجتمعيا، فلا يكفي أن تتبنى نخبة الإصلاح، ولكن يجب أن تكون هناك قاعدة اجتماعية تحمل المشروع الإصلاحي، فالنخبة قد تنفخ روح الإصلاح لكن لابد أن يكون هناك جسد تنبعث فيه الحياة، والأمم تحتاج إلى صفوة مستنيرة، وتحتاج-أيضا- إلى استنارة متساوية تُمكن المجتمع من الوعي بأهدافه والقيام بواجباته والحفاظ على مصالحه، فالكثير يفكر في الإصلاح، وقد يمسك ببعض مفاهيه وأدواته، ولكن تبقى الإشكالية في كيفية تدبيره، والتدبير يعني استخدام الموارد المختلفة لتحقيق الهدف المحدد، ومن ثم فالتدبير مرحلة وسيطة بين الموارد والأهداف، وفيها يتجلى الإبداع الإنساني، وفيها تتمايز التجارب الإصلاحية.

الاستخلاف ..المفهوم المظلوم

يعاني مفهوم الاستخلاف من ظلم كبير في فهمه وإدراك طبيعة دوره في النهوض الحضاري، فالبعض يصر أن يقصر المفهوم على الجانب السياسي في تجربة “الخلافة” ولا يرغب أن يدرك المفهوم في أبعاده الكلية الإنسانية التي وجدت مع بدء خلق الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض، ومن هنا يتجلى سوء الفهم على مستوى النصوص، وسوء التنزيل والتمثل على مستوى الواقع.

المفهوم القرآني يشير في آياته إلى الاستخلاف في آيات كثيرة منها قوله تعالى:”إني جاعل في الأرض خليفة”[4]، فالإنسان خليفة، “لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه”[5] وعند القرطبي وكثير من المفسرين، أن الخليفة هو آدم عليه السلام، وفي تفسير “في ظلال القرآن” استعراض عميق لإشكالية خلافة الإنسان في الأرض، وخروجه من الجنة بعد المعصية ثم توبته، وأن ذلك كان تدريبا للبشرية على كيفية إصلاح نفسها إذا تعرضت للفساد والمعصية، وكيفية الإقلاع والنهوض من جديد إذا وقعت وتعثرت، فلم يكن خلق آدم قصة مضت، ولكن تجربة تتكرر، يقول “سيد قطب”:”قال الله تعالى للملائكة: “إني جاعل في الأرض خليفة”.

وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى. ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة? وفيم إذن كان بلاء آدم? وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض, وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى? لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعداداً، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريباً له على تلقي الغواية, وتذوق العاقبة, وتجرع الندامة, ومعرفة العدو, والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.

إن قصة الشجرة المحرمة, ووسوسة الشيطان باللذة, ونسيان العهد بالمعصية, والصحوة من بعد السكرة, والندم وطلب المغفرة ..إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة ! لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته, مزوداً بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلاً, استعداداً للمعركة الدائبة ..وموعظةً وتحذيراً “.

ومن ثم فالإنسان هو الخليفة الذي يجب أن تسعى المشاريع الإصلاحية إلى إعادته إلى خلافته، وإقناعه أن يمارس مهامه، لذا كان واجبا الحفاظ على معنى الخلافة بمفهوهما القرآني، وعدم الركون إلى قصرها على الجانب السياسي فقط، لأن في ذلك تطرفا وغلوا وابتعادا عن منطق الشرع وغايته، ومع ذلك فقد تعرض مفهوم الخلافة في المجال السياسي، لظلم آخر وهو أن يكون أسيرا لفترة تاريخية واحدة لا يتجاوزها[6]، رغم أن لكل زمان اجتهاده، ولا يصح أن تحتكر تجربة ما المفهوم والقيمة وتصادرهما بصيغ تطبيق ثابتة تغلق الباب أمام الأجيال لتحقق تفاعلها وكسبها، ففي ذلك معاندة لسنة التطور والاختلاف.

 


[1] في كتابه “حتى لا تكون فتنة” يلخص المفكر الإسلامي فهمي هويدي موقف دعاة الإسلام من السنن بقوله:”مفارقة مدهشة أن يكون جند الله ودعاته , في مقدمة الذين يفتقدون إلى الوعي الكافي بسنن الله. وأن يكون دأب بعضهم هو القفز فوق هذه السنن ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً “

[2] سورة الروم: 41

[3] سورة الرعد: 11

[4] سورة البقرة: 30

[5] ذكر هذا القول الفخر الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب” فقال:” إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي وهذا الرأي متأكد بقوله: “إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق”

[6] التشريع الإسلامي لم يحدد رسوما وأشكالا في الحكم، ولا نص على إقامة سلطة بعينها، وإنما قرر مباديء وكليات يتوجب مراعاتها أثناء الحكم والحرص على إقامتها، مثل:العدل والحرية والشورى والتكافل والتراحم والكرامة الإنسانية.