قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنة».[1] وفي رواية أخرى“الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة والصلاة قربان – أو قال: برهان –[2]

والجُنة بضم الجيم الوقاية والستر وقد تبين بهذه الروايات متعلق هذا الستر وأنه من النار..

ومعنى كونه جنة، أي: يقي صاحبه ما يؤذيه قال القرطبي جنة أي سترة يعني بحسب مشروعيته فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه.. ويصح أن يراد أنه سترة بحسب فائدته وهو إضعاف شهوات النفس..

وإنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترا له من النار في الآخرة.[3]

فأحد مقصودي الصيام الجُنة والوقاية، وهي حمية عظيمة النفع، والمقصود الآخر: اجتماع القلب والهم على الله تعالى، وتوفير قوى النفس على محبته وطاعته.[4] قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وقوله: لعلكم تتقون بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فالصوم مدرسة تربي على التقوى والمراقبة، والخوف من الله، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي.[5]

إذا المرء لم يترك طعاما يحبه   ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما

فيوشك أن تلقى له الدهر سبة   إذا ذكرت أمثالها تـمــلأ الفما

فالصوم من أسباب السلامة من عذاب النار، وأيضاً فيه سلامة من المعاصي؛ لأن الإنسان مع توسعه في الأكل والشرب تكون عنده القوة والنشاط الذي قد يدفعه إلى الرغبة في أمر محرم، ولكنه إذا صام فإن ذلك يضعف قوته وشهوته فيكون ذلك من أسباب الوقاية من المعاصي، قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».[6]  

فهو جنة من المعاصي، ووقاية من النار، وكل منهما يحصل في الصوم، فالصوم من أسباب دخول الجنة، بل إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، ولا يدخل منه أحد غيرهم، وقيل له الريان –ولم يسم بباب الصيام- مع أن غيره من الأبواب الأخرى تسمى بالأعمال كباب الصلاة وباب الصدقة ، ذلك لأن من عطش نفسه في الدنيا فإنه يحصل له رِيٌّ في الآخرة، فيدخل من باب يقال له الريان لا يحصل معه عطش.[7]

والمعنى أن الصيام يختصه الله سبحانه وتعالى من بين سائر الأعمال لأنه أعظم العبادات إطلاقا فإنه سر بين الإنسان وربه؛ فهو من الأعمال التي لا يكاد يدخها الرياء ولا يتمه المرء إلا وهو يعلم مراقبة ربه له واطلاعه عليه،  فنيته باطنة ولذلك كان أعظم إخلاصا فاختصه الله من بين سائر الأعمال.

 قال بعض العلماء ومعناه إذا كان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسناته إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء لأنه لله عز وجل وليس للإنسان وهذا معنى جيد أن الصيام يتوفر أجره لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئا.[8]

وقد تخيل كثير من الناس أن فوائد الصيام مقصورة على الجوانب التعبدية وانعكاساتها الروحية والعاطفية، ولكن ثبت بالعديد من الدراسات المستفيضة أن للصيام فوائد صحية عديدة، وقد أظهرت نتائج تلك الدراسات أن الأداء البدني للصائم من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب أفضل من أداء غير الصائم لتحسن درجة تحمل البدن للمجهودات العضلية وتحسن أداء كل من القلب وبقية الجهاز الدوري والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، وغيرها أثناء الصيام، ومن هنا كانت قلة الشعور بالإجهاد، وتحمل ما لا يمكن للفرد تحمله في ساعات الإفطار العادية، وذلك لاختلاف مصدر الطاقة في الجسم بين الصائم والمفطر، أما إذا زادت مدة الصيام على المتوسط (11 ـ 14 ساعة تقريبا) فإن الأداء البدني والعضلي يبدأ في التأثير، ويبدأ الصائم في الشعور بالإعياء.

فمن المعروف أن الصوم يسبب انصهار الدهون في الجسم مما يؤدي إلى زيادة في الأحماض الدهنية الحرة في الدم، فتصبح هذه الأحماض هي المصدر الرئيسي لطاقة الصائم بدلا من الجولكوز في حالة المفطر، وهذا يساعد على تقليل استهلاك مادة “الجليكومين” في كل من العضلات والكبد أثناء بذل الجهد من قبل الصائم، ويساعد كذلك في ضبط مستوى سكر الجلوكوز في الدم الذي يؤدي نقصه إلى الشعور الكامل بالإعياء، ولما كان مستوى سكر الجلوكوز في دم المفطر هو المصدر الرئيسي لطاقته، كان جهده المبذول يشعره بإعياء أكبر مما يشعر به الصائم إذا قام بنفس المجهود، تحت نفس الظروف.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حالة الرضى النفسي للصائم، وارتفاع معنوياته لشعوره بالقرب من خالقه (سبحانه وتعالى) ولإحساسه بعبادة من أشرف العبادات في شهر يعتبر أفضل شهور السنة على الإطلاق، وأكثرها بركة ورحمة ومغفرة وعتقا من النار؛ كل ذلك يؤدي إلى زيادة واضحة في داخل جسم الإنسان لعدد من الهرمونات النافعة التي يعزى إليها تحسن الأداء البدني، وقلة الشعور بالإعياء أو الإجهاد.[9]


[1] ـ سنن النسائي / الحديث رقم: (2224).

[2] ـ المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 141).

[3] ـ فتح الباري لابن حجر (4/ 104).

[4] ـ الطب النبوي لابن القيم / (ص: 252).

[5] ـ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور / [التحرير والتنوير / (2/ 158 / / 160).

[6] ـ صحيح مسلم / الحديث رقم: (1400).

[7] ـ شرح سنن أبي داود للعباد (273/ 10).

[8] ـ شرح رياض الصالحين (5/ 266).

([9]) د. زغلول النجار / الإعجاز العلمي في السنة النبوية / (460).