في القانون الدولي لحقوق الإنسان، الإفلات من العقاب يعني عدم تقديم مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان إلى العدالة، وهذا بحد ذاته يشكل نكرانا لحق الضحايا في العدالة والإنصاف. وفي جميع أنحاء العالم، يعمل العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان على مكافحة الإفلات من العقاب والدفاع عن حقوق الضحايا. ويعتبر غياب المساءلة في الاعتداءات على المدافعين عن حقوق الإنسان واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الحركة الدولية لحقوق الإنسان.

 

ضمن هذا الإطار، تستعد اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر لعقد واحدا من أكبر المؤتمرات الدولية في العالم، والأكبر على الإطلاق في المنطقة، حول موضوع “الآليات الوطنية و الإقليمية و الدولية لمكافحة الإفلات من العقاب وضمان المساءلة بموجب القانون الدولي”، وهو مؤتمر تنظمه الدوحة لأول مرة بالشراكة مع البرلمان الأوروبي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة والتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان.

وقد أضحى الافلات من العقوبة ظاهرة دولية، لا تتعلق بدين معين أو دستور ما، غير أن هذه مسألة الافلات من العقاب تواجه تحديا حقيقيا في السيطرة على الجرائم التقليدية وغير التقليدية، وأعمال العنف الدموية والافعال التي تشكل انتهاكا لحقوق الانسان، وفي ايقاع العقوبات المناسبة بمرتكبها وتنفيذها، بدءا بالجرائم التي تمس كرامة الإنسان وحياته وحقه في التعبير والحياة، إلى غاية الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي، وجرائم التخريب الاقتصادي وغيرها.

الجريمة والعقاب في الأديان السماوية

ويقول محمد أبو زهرة في كتابه “فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي” أن العقوبة في الشرائع السماوية جميعا تهدف إلى الوصول إلى العدالة وحماية الفضيلة والأخلاق، والعدالة فيها ينبغي أن تتجه بحيث تكون العقوبة مساوية للجريمة واثارها .وفي الجرائم الواقعة على الآحاد، التي لا تكون العقوبة فيها لحق الله تعالى أي حق الفضيلة والمجتمع ، فان العقوبة تماثل القدر للجريمة الواقعة على المجني عليه”.

ومن ذلك يبدو أن مسألة مكافحة الإفلات من العقاب في الإسلام لها أغراض عدة قد لا تختلف كثيرا عن الأديان السماوية الأخرى، لكن أهمها هو:

1- تحقيق العدالة:فحياة الإنسان، وممتلكاته، وعرضه من الأمور الواجبة الاحترام وبالتالي فليس من العدل في شيء ترك الإنسان الذي يتعرض لهذه الأمور دون أن يطاله شيء، فإن في ذلك إجحافا في حقوق الناس وتشجيعا للجناة على ارتكاب الجرائم.

2- تحقيق الردع:والردع هنا على نحوين:

أـ الردع العام: وتتحقق وظيفة الردع العام للعقوبة بإنذار الجماعة او الدولة بشرها إذا ما ارتكب أحد أفرادها فعلا يعد جريمة، فوظيفة العقوبة هنا تهديدية موضوعها نفسية أفراد المجتمع، بأن يد العدالة ستلاحقهم.

ب ـ الردع الخاص: أما وظيفة الردع الخاص فيما يتركه ألم العقوبة من أثر نفسي في المحكوم عليه يحول بينه وبين العودة إلى الإجرام مرة ثانية.

3- إصلاح الجاني: فالعقوبة إنما قررت لإصلاح الجاني لا للانتقام من الجاني والتشفي منه.

وهناك نوعان من العقوبات في الشريعة الاسلامية: الأول: عقوبات تولى أمر تقديرها الشارع كعقوبات الحدود والقصاص. والثاني: عقوبات تُرك أمر تقديرها إلى الولاة أو القضاة عند الجرائم التي تستوجب العقاب، وفقا للقواعد العامة في الشريعة الاسلامية، وهي ما يُعرف باسم “جرائم التعزير”.

وتعطيل القصاص معناه إبـاحة الإعتداء على حياة الفراد من ناحية والاعتداء على نظام المجتمع من ناحية أخرى. أما العقوبة في القانون فهي الجزاء الذي يقرره القانون الجنائي لمصلحة المجتمع تنفيذا لحكم قضائي على من تثبت مسؤوليته عن الجريمة لمنع ارتكاب الجريمة مرة أخرى من المجرم نفسه أو من قبل بقية المواطنين. وفي تعريف آخر العقوبة هي “جزاء وعلاج يفرض باسم المجتمع على شخص مسئول جزائيا عن جريمة بناء على حكم قضائي صادر من محكمة جزائية مختصة”.

جريمة الشريف وجريمة الضعيف

القاعدة العامة التي دلت الشواهد من السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين على عدم خرقها هي أن جميع المسلمين سواء في خضوعهم للعقاب المترتب على الجريمة نفسها، فلا حصانة لأحد ولا امتياز في الإجرام، ولو كان ذلك هو رئيس الدولة.

فقد كان النبي – وهو قائد الأمة وبمثابة الملك أو رئيس الدولة- يعلن استحقاقه العقاب إن صدر منه ما يوجبه، وكان يدعو إلى الاقتصاص منه حيث روي عنه قوله: “أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء، فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني القول  فلقيت ربي وأنا طيب النفس”(أخرجه الطبراني).

كما ورد عنه الفصل في المسألة عندما قال: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”(رواه البخاري).

وعليه فرئيس الدولة الإسلامية رغم حصانته الشخصية إلا أنه إن ارتكب جريمة من الجرائم التي يعاقب عليها الشرع الإسلامي بعقوبة مقدرة، فإنه يخضع للقضاء ويستحق العقاب إن ثبتت الجريمة عليه، وهذا الحكم ما دام أنه يشمل رئيس الدولة فمن باب أولى أنه يشمل الأمراء والوزراء ومن دونهم ممن يتمتعون ببعض الامتيازات الخاصة- كالحصانة الشخصية- بسبب مناصبهم التي يتبوءونها في الدولة.

ضوابط تشريعية فعالة

على المستويات الدولية، لم تتردد قطر في التأكيد أمام الأمم المتحدة أن الولاية القضائية العالمية تعتبر آلية من آليات سيادة القانون لضمان العدالة المنصفة، ومكافحة الإفلات من العقاب في الجرائم والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.

وتنطلق قطر في اهتمامها بموضوع الولاية القضائية العالمية وتطبيقه، من كون تلك الولاية أداة قانونية إضافية لمنع إفلات مرتكبي الجرائم ذات الخطورة الاستثنائية من العقاب، حيث يكمن الإفلات من العقاب وراء تزايد وقوع الفظائع الجماعية التي يشهدها العالم، والتي يرفضها الضمير الإنساني لكونها تنتهك الصكوك القانونية والقيم الإنسانية.

وتؤكد قطر أن الأدوات التشريعية المعمول بها في قطر تُطبقُ وفقاً لضوابط تشريعية فعالة، وهناك أمثلة كثيرة لأحكام القوانين القطرية التي تمد الولاية القضائية خارج حدود الدولة، وذلك على نحو يُمثل تقاربا مع روح وطبيعة مبدأ الولاية القضائية العالمية، بالإضافة إلى أن قطر انضمت لعدد من الاتفاقيات الدولية التي تؤكد على مبدأ روح وطبيعة الولاية القضائية العالمية، التي أصبحت أهميتها جلية لمواجهة الجرائم المرتكبة في سياق العديد من القضايا عندما لا يتحمل القضاء الوطني، أو يكون غير قادر على تحمل المسؤولية القانونية لوقف الجرائم المرتكبة في إقليمه والملاحقة بشأنها.

دعم أوروبي وأممي لمساعي قطر

المؤتمر الذي سيعقد في الدوحة يومي 14 و15 أبريل الجاري، سيكون منصة حوارية لتقييم وتطوير الآليات الوطنية والإقليمية و الدولية

لمكافحة الإفلات من العقاب، وسيحضره شخصات هامة، لها خبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان، حيث سيخاطب جلسة المؤتمر الافتتاحية، إلى جانب علي بن صميخ المري رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان (القطرية)، كل من أنطونيو بنزيري رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان الأوروبي وميشيل باشلي المفوضة السامية لحقوق الإنسان كارلوس الفونسو نيغريت موسكيرا رئيس التحالف.

ويشارك في المؤتمر أكثر من 250 من ممثلي الأجهزة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، إلى جانب رؤساء وخبراء لجان التحقيق الدولية من كبار موظفين المفوضية السامية لحقوق الإنسان وممثلي اللجان التعاقديّة وغير التعاقدية في الأمم المتحدة، وخبراء وقضاة المحاكم الدولية المتخصصة، والمحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى الخبراء والمحامين الذين تقدموا بقضايا أمام المحاكم الوطنية التي تعمل بالاختصاص العالمي.

كما ستشارك بعض الوكالات الدولية المتخصصة، والآليات الإقليمية لحقوق الإنسان، ورؤساء اللجان في البرلمان الأوروبي، والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ومراكز البحوث وأهم مراكز التفكير في أوروبا، وغيرهم من الهيئات والمنظمات المعنية بالإضافة إلى الشبكات إلإقليمية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان وعدد كبير من نقابات الصحفيين في القارات الأربع وعدد من ممثلي الجامعات العربية.

وستُقدم أكثر من  20 ورقة عمل بحثية في جلسات عامة وورش وفرق عمل تهدف لبلورة مقترحات عملية  حيث يعد المؤتمر منصة حوارية هامة للتداول حول تقييم وتطوير الآليات الوطنية والإقليمية و الدولية لمكافحة الإفلات من العقاب وضمان المساءلة بموجب القانون الدولي، والخروج بتوصيات.

وتُقدم أوراق العمل شخصيات هامة ومختصة بقضية عدم الإفلات من العقاب والمساءلة والمحاكمة، من خبراء ومحاكم ومنظمات دولية من بينهم رئيس المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب والمدعي العالم للمحكمة الدولية لسيراليون إلى جانب شخصيات من التحالف الدولي للمحكمة الجنائية الدولية ونواب برلمانيون، ورئيس لجنة تقصي الحقائق الأممية في ميانمار، ورئيس لجنة التحقيق الأممية في سوريا، وقضاة في المحكمة الجنائية الدولية، ورؤساء منظمات دولية كبيرة، ووزراء حقوق الانسان والعدل في بعض الدول العربية، وكبار المسؤولين في الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي مثل رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الأوروبي.

كما يشهد المؤتمر اهتماما وحضورا إعلاميا مكثفا من كبريات المؤسسات الإعلامية في عواصم عالمية مثل واشنطن وباريس وجنيف وبروكسل ومدريد وبرلين حيث تعتبر قضية المؤتمر واحدة من القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي لتطوير وتقييم فعالية المنظومة الدولية والإقليمية والوطنية لمكافحة الإفلات من العقاب في حالات الانتهاكات الجسيمة لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني على مستوى الآليات والأجهزة والتشريعات.

التحقيق والعدالة والانتصاف والتعويض

ومن المنتظر أن يخرج هذا المؤتمر بتوصيات هامة تحقق قفزة في مجال تطوير وفعالية  تلك الآليات خاصة في ظل القوة القانونية التي تتمتع بها جهات تنظيم المؤتمر وتأثيرها في تحريك الرأي العام الدولي.

وكان علي بن صميخ المري رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر قد أشار في تصريحات صحفية سابقة أن هذا المؤتمر سيشكل حدثا دوليا هاما لتعزيز الحماية وعدم الإفلات من العقاب المنصوص عليه في المواثيق الإقليمية والدولية وكيفية تطبيق هذه المبادئ من خلال تبادل الخبرات الخاصة بالآليات الدولية والإقليمية والوطنية ،ولا سيما في النهوض بهذه المبادئ وتعزيز المساءلة.

وشدد المري أن هذا المؤتمر مؤتمر قانوني حقوقي بحت ولا يرتبط بقضايا دولية بعينها ولايتعرض لدولة محددة إنما يبحث في الإطار العام لدعم وتعزيز مبدأ عدم الإفلات من العقاب عن طريق تطوير آليات المحاسبة والمساءلة وتحديد مسؤوليات الأفراد والجماعات.

منوها في ذات الوقت، أنه بدون تحقيق مبدأ التحقيق والمقاضاة ،وتعويض الضحايا ،سيبقى العديد من المسؤولين غير مسؤولين عن هذه الانتهاكات وسيستمرون في انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

وقال المري إن من أهم مواضيع المؤتمر واجب التحقيق مع الجناة ومقاضاتهم ،وحق الضحايا في الانتصاف ،والحق في المعرفة ، والحق في الوصول إلى العدالة ،والتعويض ،وضمانات عدم التكرار.