إن الأزمات والشدائد كالكير يمحص ويفرز من المجتمع ما كمن فيه من أجناس الناس، إما خيارهم أو حثالتهم، فأما الحثالة والرويبضة، وهم أسخف الناس عقلا ورأيا، الذين لا يزيدون الطين إلا بلة، كلما نزلت الأزمات بالمجتمع تسارعوا إلى تصدير الآراء وتقديم الأفكار بلا تريث وإمعان وبلا تردد، وينزلون أنفسهم منزلة الحكم على كل معضلة، ولا يُرجعون الأمور إلى أهلها أهل الاختصاص.

«وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ» وهذا هو عين داء الجرأة المتناهية الذى تلبثوا به.

« وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (النساء: 83). وهذا هو الدواء النافع الذي تجاهلوه.

والتعويل في أوقات الفتن والأوبئة لا يكون إلا على أهل الاختصاص، لكن القوم أبوا إلا أن يخوضوا فيما لا يحسنون فتخبطوا في ذلك أيما خبط، أحيانا في تفسير ظاهرة الوباء جزما بأنها علامة الساعة، أو في وصف علاج الوباء على طريقة الدجل والشعوذة سموه وصفات علاجية ذات بعد روحي، أو في توزيع الفتاوى العشوائية وترويج الآراء الشاذة كالقول بإقامة صلاة الجمعة في بين الأسر، وحتى تعليق صلاة الجماعة في المسجد يعنى عند بعضهم إلغاء صلاة الجماعة نهائيا، أو في نقل الأخبار الزائفة التى تغرس الرعب في نفوس الناس، في وقت يلتمس الحيارى ما يُثبّتهم ويطمئنهم، وقد قال الطبيب ابن سينا: “الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أولى خطوات الشفاء”.[1]

وهكذا كان يزيد أولئك الفئة غير المؤهلين في انتشار الوباء بين الناس، وخاصة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.

وقديما قيل:” أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.”[2]

وأما خيار الناس؛ فهم أنفعهم في حسن إدارة الأزمات والسعي المحمود في إيجاد الحلول المناسبة.

فخيار الناس في كل زمن ومكان هم العلماء خلفاء الأنبياء في العلم والعمل والنصح، ثم المنتسبون إلى العلم النافع، وعلى رأسهم الأطباء الخبراء بعلاج الأجساد، الذين هم ركيزة من ركائز المجتمع، ومنزلة العلماء والأطباء في حياة الناس بمنزلة البدن والروح.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : إنما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب.”[3]

“إن المعلم والطبيب كلاهما     لا ينصحان إذا هما لم يُكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه   واصبر لجهلك إن جفوت معلما”[4]

العلماء في وقت الأزمات

بالعلماء صلاح الدين والدنيا، والاستغناء عنهم مطية لمفسدة الدين والدنيا على حد سواء، فبهم يجب أن نبدأ ونصدر، وعندهم يجب أن نفزع ونرجع، وبجميل إرشادهم يجب أن نتمسك.

قال الآجوري رحمه الله:” فما ظنكم رحمكم الله بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه مصباح وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لابد لهم من السلوك فيه، فسلكوا، فبينما هم كذلك، إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس.”[5]

ولذا كان يقول الإمام أحمد: “الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس”[6]

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفا لمنزلة العلماء: “هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء؛ وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب”[7].

وما أحوج الناس إذن في زمن الأوبية إلى التمسك بغرز العلماء الذين ينفع الله بهم، ويمكن أن تتمثل إسهاماتهم الإيجابية حين تقع الفتن والشدائد في أمرين رئيسين:

الأمر الأول: رفع معنويات المؤمنين وتثبيت قلوبهم وربطها بالله عز وجل، وتذكيرهم بمعية الله تعالى؛ سواء المعية العامة التى تعنى أن الله مطلع على جميع خلقه ومعهم بعلمه، أو المعية الخاصة التى هي معية الله لأوليائه بالنصرة والتوفيق.

وتظهر أهمية المعية أنها غرس للطمأنينة وداعية للروح المتفائلة وثقة بالله تعالى، وأنه لا يحدث شيء في الكون إلا بعلمه وإذنه وللحكم أرادها، وله سبحانه وتعالى ألطاف لا يدركها أحد من خلقه، ولقد مر البشر من خلال صفحات الحياة بلحظات أشد سوادا وأحلك الظروف؛ من الأمراض والوباء والشدائد ابتلاء وامتحانا للعباد بالخير أو الشر، مع الإيمان بأن «الطاعون شهادة لكل مسلم»[8]. وسنن الله في الكون أن مع العسر يسرا، «سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» (الطَّلاق:7) وكلما اشتدت الأزمة والمحن كلما كان ذلك إيذانًا بنهايتها وزوالها.

ثانيا: إرشاد الناس لكيفية الخلاص من الوباء، من بينها الالتجاء إلى الله تعالى والتقرب إليه بالانكسار والتذلل والتضرعة، وبالأدعية المحصنة من الأمراض، وأذكار الصباح والمساء، والتوبة، والصدقة، وزيادة النشاط في أنواع البر والأعمال الصالحة، ومن بينها أيضا: اتخاذ الأسباب الوقائية والعلاجية، وقد كان لنا أسوة حسنة في الصحابي الجليل عمرو بن العاص في كفائية فذة لمواجهة طاعون عمواس، حيث حذر الناس من التجمعات والاختلاط أو اقتراب من الأمكنة الموبوءة فخطب قائلا:” أيُّها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتحيلوا منه في الجبال… وخرج، وخرج الناس، فتفرقوا فرفعه الله عز وجل عنهم، فبلغ ذلك من قول عمرو إلى عمر بن الخطاب، فما كرهه.”[9]

هذا هو دور العلماء الربانيين بصفة عامة، في التوعية الدينية الرشيدة التي تضع المؤمنين في تهدئة الأوضاع والطمأنينة والسكينة، والفأل الحسن، وحسن الظن والثقة بالله، وهذا هو الدواء الروحي والإرشادي الذى بيد العلماء ورثة الأنبياء.

الأطباء مرجع في العلاج

إن عين الأطباء المتخصصين في زمن الأوبئة دائما منصبة على قيادة العباد والبلاد إلى بر السلامة والأمان، وهم صمام الأمان لدى المجتمع في البحث المستمر عن اكتشاف اللقاحات وطرق القضاء على أسباب الأمراض، وإيجاد العلاج الحقيقي الناجع للأمراض، والسعي الحثيث في وصف الحلول للمشاكل الصحية، تبعا لقوله عليه الصلاة والسلام: “تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء”[10] وقوله عليه الصلاة والسلام: “لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل”[11] وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء”[12]

وفي طيات هذه الأحاديث أمل ورجاء، وبشارة واضحة على وجود أدوية مفيدة لجميع الأمراض الحالة بالخلق، وإنما يتطلب الأمر استمرار البحث في الكشف عن الأدوية الناجعة، وهذا هو ديدن الأطباء في جميع التخصصات وهم محل الثقة دون غيرهم.

ولذا يجب الانسياق وراء السلطات الصحية في نصائحهم وتوجيهاتهم، حتى لو كان التعويل والعهدة على غير المسلمين، إذ لا حرج في الاستعانة بهم – بعد الله تعالى- في التداوي والمجالات الصحية.

ولله در الإمام الشافعي فإن له استشرافا لأهمية الطب في المجتمع الإسلامي، قال رحمه الله: “لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب غلبونا عليه.
قال حرملة: “كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: “ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى”.[13]

والمقصود أنه ينبغى تكثيف الجهود الواسعة في نشر التوعية بين الناس بضرورة التقيد والتوقف عند أوامر المؤسسة الطبية الرسمية في أي مجتمع،  والابتعاد كل البعد عن العرافين والشعوذة والمتعالمين، وعن الأخبار الزائفة المرعبة التى يتناقلها الناس مما لا أساس لها، استجابا لقوله تعالى: ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” وأهل الذكر في أزمة الأوبئة هم أهل العلم، والأطباء  من أهل الاختصاص، وعليهم المعول بعد الله.


[1] – مبادئ الطب الوقائي في صحة الأمومة والطفل. ص:104

[2] —  مجموع الفتاوى 5/118

[3] – آداب الشافعي ومناقبه. ص:244

[4] – منهاج اليقين شرح أدب الدنيا والدين للإمام الماوردي 1/286

[5] – أخلاق العلماء. ص:29

[6] – مفتاح دار السعادة 1/61

[7] – إعلام الموقعين 1/9

[8] – متفق عليه

[9] – أسد الغابة في معرفة الصحابة 5/325

[10] – رواه ابن حبان (6061).

[11] – أخرجه مسلم (2204)

[12] –  متفق عليه.

[13] – سير أعلام النبلاء: 10/57].