يعد المفكر والمصلح الهندي “أبو الحسن الندوي”[1] ممن قدموا رؤى مبكرة في نقد الحضارة الغربية[2]، تتميز بأنها وضعت أسسا للنقد صرفت اهتمامها للجذور البعيدة، والغايات الكامنة لتلك الحضارة، وتحديد موقف المسلمين منها، وهو نقد قائم على أسس عقدية في المقام الأول، فالدين-برأيه- هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه أي مشروع نقدي للغرب، لذا كان دائم التحذير من الانبهار المادي بالغرب دون إدراك حجم الأزمة التي تعاني منها تلك الحضارة في علاقتها مع الإنسان، وكان يعلن أن الحضارة الغربية ليست وليدة القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنها حضارة تضرب بجذورها في الحضارتين اليونانية والرومانية، وتستمد من تراثهما العقلي والفلسفي كثيرا من مادتها وإنتاجها.

وفي هذا الإطار يأتي كتاب “الإسلام والغرب عند أبي الحسن الندوي” تأليف مصطفى كيشانه، والصادر عام 2019 عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ببروت، في 250 صفحة ، وهو الكتاب الثالث ضمن سلسلة “نحن والغرب” الهادفة إلى تقديم رؤى نقدية للحضارة الغربية لمفكرين أثروا في الثقافة العربية  والإسلامية وخلقوا بنقودهم جدالات مازال صداها يتردد في العقل المسلم.

                                                             الجذور البعيدة            

الحضارة الإغريقية[3]هي نقطة البدء في فهم الحضارة الغربية، برأي الندوي، ومن سماتها: الإيمان بالمحسوس، وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس، وغياب تأثير الدين، والانصراف إلى الحياة بما فيها من شهوات ومتع، وتغلب الفكرة الوطنية، فالمواطنة وما يترتب عليها من حقوق والتزمات كانت مقصورة على أهل المدينة فقط مثل: أثينا أو إسبرطة، ومن ثم ففكرة الاستعلاء العرقي أو الجغرافي في الحضارة الغربية لها جذورها الإغريقية القديمة .

ويرى الندوي أن الحضارة الرومانية[4] تميزت بالتنظيم والجندية واتساع الدولة، لكنهم لم يلحقوا باليونانية في الفلسفة والشعر والأدب التي كان للإغريق فيها فضل على جميع الأمم المعاصرة، وهو ما يعني أن الرومان تشبعوا بالحضارة اليونانية وتمثلوها في كل جوانب حياتهم، لذا فهناك تشابه كبير وقواسم مشتركة بين اليونان والرومان، وكلتا الحضارتان لهما تأثيرها في الحضارة الغربية الحديثة خاصة النزعة المادية المغالية، وطغيان ذلك على البعد الديني، وبالتالي فالدين فاقد لتاثيره منذ زمن بعيد يمتد إلى الجذور الغائرة والممتدة إلى اليونان والرومان، إذ أن تأثير العمل الديني على الرومان كان ضئيلا وشاحبا، كما انعكست دياناتهم الوثنية في ميلهم إلى التجسيد للآلهة، وهو ما نزع فكرة القداسة عن الدين والإله من الضمائر والتشريعات.

ولكن ما هي التاثيرات المتبادلة بين المسيحية والدولة الرومانية؟ يرى الندوي أن المسيحية أحدثت بعض التحول في الدولة الرومانية إلا أنه كان تحولا محدودا، فبعد اعتناق الإمبراطور “قسطنطين” المسيحية[5]، ربما أمسكت المسيحية بالحكم في الإمبراطورية الشاسعة لكنها لم تقضي على الوثنية، بل إن الوثنية تغلغلت داخل المسيحية ذاتها، فالمسيحيون بعد قسطنطين “ربحوا ملكا عظيما، وخسروا دينا جليلا” كما أن الرهبنة التي ابتدعوها كانت عبئا على الإنسانية والمدنية، فالرهبنة لم تستطع القضاء على مادية الحضارة الرومانية، ولكنها عمقت نزوعها المادي، إذ جعلت التوازن مستحيلا بين الروح والمادة، كان الندوي يدرك أن انتصار المادية على الإنسان أزمة سيعاني من الإيمان والروح، لذا كان يدعو إلى التلازم بين المادة والروح في بناء الحضارة، فيقول:”والنصرانية الرومية حاولت عبثا تغيير الفطرة وإزالتها، وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تستسيغه” فالرهبنة لم تكن إلا صداما مع الفطرة.

انتقد الندوي عددا من المفكرين الغربيين الذين قامت على أكتافهم الرؤى المادية، خاصة “ميكافيللي” الذي وضع الأسس للفلسفة النفعية غير الأخلاقية، كما انتقد الثورة الفرنسية 1789م لإشاعاتها الروح اللادينية في الحياة الغربية، كما انتقد كارل ماركس مؤسس المدرسة الشيوعية، وانتقد نظرية دارون في النشوء والارتقاء.

أسس ودوافع نقد الغرب

كان الندوي يقلقه تأثر الأجيال في الشرق بالثقافة والحضارة العربية، لذا أراد أن يبرز حقيقة تلك الحضارة أمام تلك الأجيال، فكان يعلن أن الحضارة الغربية رغم تذرعها بالعقل والعلم إلا أنها موغلة في الجاهلية الأخلاقية، ولعل هذا ما جعل ظاهرة الانتحار تنتشر بين الشباب الغربي للفراغ الاعتقادي، أما أهم الأسس التي بنى عليها نقده للفكر والحضارة الغربية:

-البعد الديني العقدي: فالغرب يملك نظرة في كل شيء إلا أنه لا يملك الإيمان، فليس في حضارته ما يصنع به الإيمان، وكان الندوي يؤول كلمة الزينة في سورة الكهف بأنها هي الحضارة المادية، ويرى أن الدجال[6] الذي ذكرت بعض الأحاديث النبوية أن قراءة سورة الكهف تحمي المسلم من فتنة، إنما يرمز للحضارة المادية، على اعتبار أن السورة تضرب بإيقاعها القوى على أمراض المدنية الزائفة المتخلية عن الإيمان، ومن ثم كان يبني موقفه من الحضارة الغربية على بُعد تأويلي لآيات القرآن الكريم، معتبرا سورة الكهف تعبير عن موقف الدين الرافض لكل تطرف حضاري مادي يلغي الروح لصالح المادة.

النزعة المادية المغالية: كانت المادية من الأسس المركزية التي شيد عليها الندوي نقده للحضارة الغربية، ففي رأيه أنها حضارة تعيش على ما حققته من انتصارات مادية، وليس لديها ما تقدمه من رسالة للإنسانية.

-أساس السعادة والشقاء: يرى الندوي أن الشقاء والسعادة في الحضارة قائم على أساس ديني، والغرب سعيد وشقي في آن واحد.

-الأساس الأخلاقي: الاختيار المادي للغرب جاء على حساب الجانب الروحي والأخلاقي، فالغرب-في رأيه- مصاب بـ”جذام أخلاقي” وهو داء ينتشر ويتغلغل في أركان الحضارة وجنباتها حتى لا يُبقي منها شيئا.

ويلاحظ أن الندوي نظر إلى الغرب في إطار رؤية صراعية خاصة في الجانب الفكري، ورأى أن النخب الحاكمة والمتنفذة في أغلب العالم الإسلامي هي البيئة الصالحة لازدهار الأفكار الغربية، لأنها متصالحه مع الغرب مرتبطة به في إطار مصلحي وثيق، ومن ثم فالمجتمعات المسلمة لن تخطو خطوة واحدة للأمام مالم تحدد موقفها من الحضارة الغربية، وكان يؤلمه أن المسلمين لا يفكرون في معارضة الغرب، أو مناقشته في سيادته، وهو ما جعل اليأس يستولي على الكثيرين، ومع ذلك فإنه تحدث عن مجموعة من الركائز الإيمانية والأخلاقية في المجتمعات المسلمة يمكن النهوض عليها، وعندها سيدرك الغرب حاجته إلى قيم الإسلام، وسيتخلى الغرب عن مقولات الاستشراق التي أججت الصراع بين الغرب والإسلام .


[1] أبو الحسن الندوي مفكر ومصلح هندي (1913-1999م)، ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-، هاجر جده إلى الهند في القرن السابع الهجري واستقر بها، للندوي اسهامات كبيرة في المكتبة الإسلامية أهمها:”ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”.

[2] من مؤلفات الندوي عن الغرب: الإسلام والغرب، الإسلام والمستشرقون، أهمية الحضارة في تاريخ الديانات و حياة أصحابها، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، المسلمون تجاه الحضارة الغربية، موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية، الصراع بين الإيمان والمادية: تأملات في سورة الكهف، حديث مع الغرب

[3] الحضارة الإغريقيّة أو اليونانية هي حضارةَ اليونان القديمة التي امتدت من عام 1200 قبل الميلاد حتّى موت الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، بلغت الحضارة الإغريقية أوج عظمتها وازدهارها خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد ، بالتزامن مع ظهور مدن مهمة كـ “إسبرطة وأثينا”

[4] تعد الحضارة الرومانية أو روما القديمة ، من أهم حضارات أوروبا بعد الحضارة الإغريقية، تأسست في عام 735 ق.م في روما التي اعتبرت عاصمة هذه الحضارة وامتدت هذه المرحلة الأولى حتى عام 27 قبل الميلاد، ثم توسعت وبدأت بفرض سيطرتها وشكلت إمبراطورية قوية امتدت من المحيط الأطلسي حتى حوض نهر الفرات في الفترة الزمنية التي كانت ما بين عام 27 ق.م حتى 395 م، وفي عام 395 م قام الملك ثيودوسيوس بتقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين ليأذن بذلك بداية مرحلة الضعف والتفكك، حيث انقسمت إلى القسم الغربي وعاصمتها روما، والقسم الشرقي وعاصمتها القسطنطينية، إذ سقطت الأولى عام 476 م على يد القبائل الجرمانية، والثانية سقطت عام 1435 م على يد العثمانيين.

[5] الإمبراطور قسطنطين الأول حكم من 306 م إلى 337م، وكان أول إمبراطور روماني يعتنق المسيحية، عاش مُعظم حياته في الوثنية، ويقال أنه اعتنق المسيحية وهو في الأربعين من عمره، لكنه لم يُعمد وفق التقاليد المسيحية إلا قبيل وفاته ، ورغم ذلك أثر في المسيحية تأثيرا عظيما

[6] في صحيح مسلم مرفوعاً: “مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ”، وفي رواية الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَنْ قَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ”