منذ أقصيت الشريعة عن المجال التشريعي للدولة في القرن التاسع عشر ظل سؤال الشريعة وموقعها في المجتمعات الإسلامية حاضرا لدى كل من الإسلاميين والغربيين على حد سواء، ويتجلى اهتمام الأخيرين في صورة عدد ضخم من الدراسات التي أنتجتها مراكز البحث حول الشريعة، ومعظم هذه الدراسات تلتقي على مسألتين:

الأولى التشكك في صلاحية أحكام الشريعة أو جزء منها على الأقل كأحكام الحدود للتطبيق في زماننا الحاضر. والثانية التشكك في قدرة الشريعة من حيث هي نظرية فقهية على التحول إلى مدونة قانونية منضبطة يمكن الاحتكام إليها قضائيا؛ وحجتهم أن تعدد الآراء الفقهية في المسألة الواحدة والتي يمكن للقاضي الحكم بمقتضاها يخل بمبدأ “المساواة القضائية” وبسبب هذا يتعذر اعتماد الشريعة كمرجعية قانونية للدولة الحديثة، ويصبح حتما اللجوء إلى التشريعات الغربية التي عرفت طريقها نحو التقنين[1] في مفتتح القرن التاسع عشر.

وهذا الادعاء لا يستند في الغالب الأعم إلى دراسة دقيقة لمحاولات تقنين الشريعة وفي مقدمتها “مجلة الأحكام العدلية” التي أصدرتها الدولة العثمانية وهي أول محاولة إسلامية للتقنين، ومن شأن الوقوف عليها التحقق من قابلية الفقه الإسلامي للتقنين والوقوف على موقف الدولة العثمانية من مرجعية الشريعة.

تعريف بالمجلة ودواعي صدورها

في عام 1869 م صدر أمر همايوني [سلطاني] بتأليف لجنة من سبعة أعضاء يترأسها ناظر العدلية أحمد جودت باشا ( 1822-1895) لوضع قانون في المعاملات مستقى من الفقه الحنفي مذهب الدولة العثمانية الرسمي يحوي الأقوال المعتمدة في المذهب ويخلو من التناقضات والاختلافات في الأقوال الأخرى ويراعى في صياغته سهولة العبارة والانضباط ليسهل للقضاة الرجوع إليه، وقد استغرق إعداد المجلة نحو سبع سنوات إذ أنهت اللجنة مهمتها عام 1876 م. وقد جاءت في مقدمة وستة عشر كتابا كل منها يعالج موضوعا معينا، وبلغ عدد موادها 1851 مادة، وفور صدورها وضعت موضع التنفيذ واعتبرت قانونا للدولة العثمانية والولايات التابعة لها، عدا مصر ذات الوضعية القانونية الخاصة، واستمر العمل بها حتى منتصف القرن العشرين في بعض البلدان العربية.

ويوضح تقرير أعضاء المجلة المنهجية التي اتبعت في تدوينها وهي ذكر القواعد الفقهية في مقدمة المجلة والتي من شأنها ضبط عمل القضاة، وافتتح كل كتاب منها بمقدمة تضم الاصطلاحات الواردة فيه ثم المسائل الأساسية على الترتيب وأدرجت تحتها كثير من المسائل الفرعية المستخرجة من الفتاوى، وأوضح التقرير أن هذا العمل الجمعي ليس بدعا ضمن تاريخ الفقه فقد سبق إلى ذلك الفقهاء الأحناف في “الفتاوى الهندية” وفي “الفتاوى التاتارخانية”.

وأسهب التقرير في ذكر الدواعي التي تقف وراء إصدار المجلة، ويمكن إجمالها في مجموعتين:

الأولى دواعي تتعلق بطبيعة النظام القضائي العثماني والتطورات التي طرأت عليه مع اعتماد سياسة التنظيمات الخيرية عام 1839 م، ففيما مضى كان هناك نظام قانوني واحد في الدولة هو الشريعة الإسلامية، وبعد هذا التاريخ أصبح لدينا نظامان قضائيان منفصلان وهما الشريعة الإسلامية والقانون الأوروبي الوضعي الذي اقتبس عنه قانون التجارة العثماني عام 1850 م. ونتج عن هذه الازدواجية القانونية تضارب قضائي عانت منه الدولة ذلك أن بعض القضايا المتفرعة عن قانون التجارة والتي لا تسري عليها أحكامه باتت تنظر أمام محاكم الشريعة وهكذا أصبحت القضية الواحدة تنظر من خلال نظامين قضائيين متباينين.

والثانية دواعي تتعلق بطبيعة الفقه الحنفي؛ الذي وجد فيه على مر العصور مجتهدون كثيرون مختلفون في الطبقة ووقعت فيه اختلافات كثيرة “ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية بل لم تزل مسائله أشتاتا متشعبة فتمييز القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدا”[2] من جهة أخرى يشير التقرير إلى مسألة هامة وهي أن تبدل الأزمان يستلزم بالضرورة تغيرا في المسائل التي تبنى على العرف والحاجة -كما هو الحال في المعاملات التجارية كالإجارة والبيوع وغيرها-فأحكامها لابد أن تختلف تبعا لتغير العادات، لكن الاختلاف في الحكم ليس تغييرا في القاعدة الشرعية، ولما كان التفريق بين الاختلاف الزماني وبين الاختلاف البرهاني أمر يصعب معرفته على القضاة دعت الحاجة إلى جمع لفيف من العلماء المتبحرين في الشريعة لوضع المجلة[3].

اجتهاد أم تقليد

يثير التقرير الذي أفاض في الحديث عن ضرورة “مراعاة العرف والعادة” وعن الحاجة الماسة إلى “تيسير معاملات العصر” التساؤلات حول علاقة المجلة بحركة الاجتهاد، فهل المجلة عمل تجميعي يقع في إطار التقليد أم هي عمل اجتهادي.

يميل بعض دارسي القانون الإسلامي إلى اعتبار المجلة عمل تجميعي جيد فكل كتاب منها هو تجميع وتلخيص لباب من أبواب الفقه الحنفي وبهذا المعني لا يمكن نعتها بالاجتهاد، وحجتهم الرئيسة هي محدودية مصادرها ممثلة في المذهب الحنفي بل في القول الراجح دون سواه، وهو ما حرمها الإفادة من الثراء الواسع في المذاهب الفقهية الأخرى، وبحسب هؤلاء فإن المجلة ربما أضرت بحركة الاجتهاد فمحدودية مصادرها جعلها “ضيقة الأفق”، وصياغتها النصية لم تدع للقضاة مجالا للاجتهاد في التفسير، ونسبتها إلى الشريعة -رغم أنها تنتمي لجزء يسير من الفقه الحنفي- منح أحكامها ثباتا في ظل مجتمع كان عرضة لتغيرات متلاحقة بفعل الانفتاح على الغرب[4].

لكن ثمة اعتبارات عديدة تجعل من التسليم بهذا الادعاء أمرا متعذرا، وهناك مسألتين يمكن مناقشتهما في هذا السياق:

الأولى تتعلق بعلاقة المجلة بالمدارس والآراء الفقهية الأخرى، فرغم اعتمادها المذهب الحنفي كان بمقدور واضعوها الانتقال إلى خارج المذهب إن لم يوجد قول يحقق المصلحة داخل المذهب، ومن أمثلة ذلك اعتمادها قول عبد الله بن شبرمة (ت:144 ه) في مسألة شروط البيع، وهي مسألة ملحة لأن التعاملات التجارية الحديثة قائمة على وضع شروط يتفق عليها المتعاقدان وجلها لا يوافق ما وضعه الفقهاء من ضوابط، وملخص قول ابن شبرمة -وهو أحد الأئمة المعاصرين للإمام أبي حنيفة في الكوفة واندثرت قواعد مذهبه- أن البيع إذا داخله أي شرط كان صح الشرط والبيع مطلقا دون نظر لطبيعة الشرط وصحته أم فساده، وهذا الرأي يحقق المصلحة التي لا يمكن تحقيقها ضمن المذهب الحنفي الذي يُفصل كثيرا في مسألة الشروط حين يقسمها إلى ثلاثة أقسام: شرط جائز وشرط مفسد وشرط لغو، وكل منها لها تعريفه وشروطه وهو ما يجعل من التوسع في مسألة الشروط عملا مستحيلا، وبالتالي اقتضى الحال الخروج من المذهب بالكلية واللجوء إلى رأي فقهي يقع خارج المدارس الفقهية المعتمدة.

والثانية تتعلق بتغليب القول الراجح في المذهب على بقية الأقوال، وقد شهدت هذه القاعدة استثناءات عديدة نذكر منها بيع المعدوم -أي بيع ما ليس موجودا كالثمار التي لم يكتمل نموها- والقول الراجح في المذهب أنه لا يجوز بيعها ويعود إلى الإمام أبي حنيفة، لكن لما كان هذا الرأي يكلف الناس الذين اعتادوه حرجا ومشقة ذكرت المجلة أنه لما كان ” إرجاع الناس عن عاداتهم المعروفة عندهم غير ممكن، كما أن حمل معاملاتهم بحسب الإمكان على الصحة أولى من نسبتها إلى الفساد، وقع الاختيار لترجيح قول محمد رحمه الله في هذه المسألة”[5].

ومن أمثلته كذلك ما أوردته المجلة بخصوص عقد الاستصناع*، والقول الراجح أنه يجوز للمستصنع له الرجوع في البيع بعد إتمامه، لكن هذا القول لا يمكن العمل به لأنه “في هذا الزمان قد اتخذت مصانع كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر (الفابورات) ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الاخلال بمصالح جسيمة، وحيث الاستصناع مستند إلى التعارف ومقيس على السلم المشروع على خلاف القياس لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى [حيث] في هذا مراعاة لمصلحة الوقت”[6].

يتضح من هذه الأمثلة أن المجلة لم تلتزم القول الراجح في المذهب إن كانت المصلحة في غيره من الأقوال، كما كان بإمكانها الخروج دون حرج من المذهب الحنفي إلى غيره من المذاهب إن لم تتحقق المصلحة في أقوال المذهب، وهو ما يعني عدم جمودها على عدد محدود من الأقوال الفقهية كما أشيع، والراجح لدينا أنها جنحت صوب الاجتهاد لكنه اجتهاد مقيد ومحكوم بالمنظومة الفقهية وقواعدها وأدواتها وليس اجتهادا مطلقا من خارجها، وهو أمر مفهوم فهي محاولة تقع ضمن النطاق القانوني ومصادر القانون معلومة وهي التشريع والعرف والعادة وبالتالي فإن الاجتهاد المطلق خارج هذه المصادر غير مستطاع، وعلى هذا تظل المجلة محاولة أولى لتقنين الفقه الإسلامي وإثبات قابلية الشريعة لأن تكون مرجعية قانونية للدولة الحديثة.


[1] يقصد بالتقنين تجميع الأحكام القضائية المتبعثرة في المصادر المختلفة وإصدارها في مجموعات مرتبة ترتيبا موضوعيا، أنظر: جمال الدين عطيه، تاريخ التقنين الإسلامي، بيروت: المسلم المعاصر، ع 11، 1979، ص 37.

[2] محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، القاهرة: 1893، ص 352.

[3] المرجع السابق، ص 352-353.

[4] س. س أونر، مجلة الأحكام العدلية، بيروت: مجلة الاجتهاد، ع 3 ربيع 1989، ص 207،216.

[5] مجلة الأحكام العدلية، بيروت: المطبعة الأدبية، 1302هـ ،ص22.

* الاستصناع أن يطلب الإنسان من آخر أن يصنع له شيئا مخصوصا وفقا لمواصفات بعينها ومن مواد يمتلكها الصانع على أن يدفع له ثمنها بعد إتمام الصنع.

[6] مجلة الأحكام العدلية، ص 22-3-23.