إن المتأمل في تعاطي كثير من الجمعيات النسوية مع التشريعات الإسلامية، يجدها تقف منه موقف الاتهام،  فتتهمه أنه كان تشريعا ذكوريا ضد مصالح المرأة التي غابت عن الاجتهاد والتشريع إلا ما ندر!! متناسيات أن الفقهاء رجالا كانوا أو نساء لا يملكون حق التشريع ، ولكنه اجتهاد لفهم النص وفق آليات محددة، وليس وفق أهوائهم ، وهذه الآليات هي مجموعة قواعد أصول الفقه. فالمجتهد لا يتعامل مع النص وفق ثقافته وموروثاته المعرفية ، ولكنه يتعامل مع النص وفق مجموعة من الأطر والقواعد، غاية ما هناك أن كل فقيه من الفقهاء يأخذ بما ترجح إليه من أطراف هذه القواعد والأطر.

تخوين تجاوز الفقه إلى الشريعة الإسلامية

وليت هذا التخوين وقف عند الفقه الإسلامي، فالفقه في النهاية صناعة بشرية لمحاولة فهم النصوص، وتخوين الفقهاء في النهاية يئول إلى خصومة بين الفقهاء وبين من خونهم في دينهم وأمانتهم، خصومة يقضي فيها الله رب العالمين بين الطرفين..لكن التخوين تجاوز دائرة الفقه إلى حدود الشريعة نفسها ، كلمة الله ووحيه، المتمثل في القرآن والسنة. وجدنا هذا التطرف النسوي يصرح بعوار اللعان، وهو تشريع الله في القرآن، وأنه جاء لمصلحة الرجال ضد النساء، وأنه تشريع تجاوزه الزمن،واتهامات يخشى معها الكفر على قائلها.

وجدنا هذا التطرف النسوي، حينما عاند في استقبال تشريع الميراث، الذي أعطى فيه للرجل مثل حظ الأنثيين في بعض الحالات، ونادى بالمساواة بينهما، بحجة إنصاف المرأة! فمن جار على المرأة إذا كان المشرع هو الله رب العالمين!

هذا التطرف النسوي، الذي يغمز بين الحين والآخر بعض ما يرينه تمييزا بين الرجل والمرأة ، مثل قصر حق التعدد على الرجل دون المرأة، وإعطاء الرجل حق الطلاق دون المرأة ، ونحو ذلك من الأحكام الإسلامية.

وعلى المسلم إزاء تشريعات الإسلام القطعية والصريحة أن يقطع بأن الله تعالى لا يحابي أحدا في تشريعه  على حساب طرف آخر، كما لا يجافي طرفا لحساب طرف آخر.

ليست تشريعات الإسلام القطعية والصريحة مثل تلك التشريعات الفئوية التي تغلب فيها الفئة المشرعة مصلحتها على مصالح الناس، فإذا كان المشرع امرأة غلبت مصالح الجنس النسوي على الجنس الذكوري ، وكذلك يفعل الرجل إذا كان التشريع بيده، وقل مثل ذلك إذا انفرد الأغنياء بالتشريع، أو الفقراء أو أي فئة دون أخرى.

احتقان نسوي!

وقد يكون لهذا الاحتقان النسوي ما يبرره، من بعض المنتسبين للإسلام ، الذين يسوقون لهذه الفروق على أنها امتيازات للرجل باعتباره رجلا، وفي رأيي أن أمثال هؤلاء يتحملون الإثم في نشأة هذا الفهم المنحرف،فعمله ذلك فيه من الفتنة، التي لا تقل عن فتنة الرجل الذي أطال بأصحابه الصلاة، فانصرف بعضهم من الصلاة لمصلحته ، فلما بلغ الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب على الإمام قائلا : أفتان أنت يا معاذ! [1]

وبصفة عامة؛ فإن إنصاف الإسلام للمرأة لا يُماري فيه جاهل أو جاحد، فها هي نصوص القرآن والسنة زاخرة بهذا المعنى، والكتابات في ذلك كثيرة متعددى، غير أن الذي يهمنا هنا أن نبين أن اجتهاد الفقهاء ( الرجال) لم يكن اجتهادا فئويا ذكوريا ضد فئة النساء، وحسبنا هنا أن نذكر هذه النماذج:

النموذج الأول: عدم قصر ( الرقبة) على الذكور

لم نجد أحدا من الفقهاء ولا المفسرين المتهمين بالتفسير ذكوري، لم نجد أحدا منهم فسَّر قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] الواردة في ثلاث سور من القرآن  بالرقبة الذكورية، بل سوَّى جميعهم بين الرقاب ( ذكورا وإناثا) فأجازوا تحرير الرجال والنساء في هذه المواضع مع أن الشارع عُهد منه التفرقة بين الذكر والأنثى في غير باب فقهي ، مثل ( الإمامة ، والولاية العامة، والقضاء، والعقيقة، والميراث، والشهادة، وغسل البول) إلا أن ذلك لم يَخلق منهم عقلا ذكوريًّا؛ فقالوا :؛لأن الشارع متشوف إلى تحرير الرقيق ، ذكورهم وإناثهم، ولم يُعهد منه التفرقة بين الجنسين في هذا الباب.

النموذج الثاني :اختيار جنس الجنين

ناقش المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي تشوف بعض الأسر لإنجاب ( الذكور) خاصة، في ظل تقدم التقنيات العلمية التي تسمح بالتدخل لاختيار وتحديد جنس الجنين عن طريق بعض الطرق العلاجية، فانتهى المجمع ( الذكوري) بالإجماع إلى عدم جواز ذلك، ولو أن الفقهاء الرجال ينحازون لجنسهم ضد الرجال لكانت هذه أولى الأوقات للانحياز، فجاء في قرار المجمع الذي انعقد بمكة المكرمة في الفترة من 22ـ27/شوال/1428هـ التي يوافقها 3ـ8/نوفمبر/2007، قرر المجمع :” لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكور دون الإناث، أو بالعكس، فيجوز حينئذٍ التدخل، بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريراً طبياً بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي ومن ثم يعرض هذا التقرير على جهة الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك. “

النموذج الثالث: راتب الزوجة العاملة

ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ( وأعضاؤه جميعا من الرجال) الخلافات الأسرية المتعلقة براتب الزوجة العاملة، فلم يُبح ابتزاز الزوج لزوجته بتعليقه الإذن للزوجة بالعمل خارج البيت مقابل الاشتراك في النفقات الواجبة على الزوج أو إعطائه جزءا من راتبها وكسبها.  كما حرَّم إجباره إياها على العمل خارج البيت، كما حرَّم على الزوج إجبار زوجته الغنية على نفقة المنزل. [2]


[1] – متفق عليه من حديث جابر.

[2] – انظر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في الدورة السادسة عشرة سنة 2005م