الفيلم الهابط الذي قام عليه بعض الأقباط بمعية متطرفين أمريكان معادين للإسلام ورموزه بشكل غير مفهوم، أثار انتباهنا إلى جملة أمور مثل كيفية التعامل مع المخالف والكاره والحاقد، وأساليب التنديد واستهجان الإساءات ضد الأديان ومسألة الحوار مع الآخر وغيرها كثير لا أود التطرق إليها هاهنا، بقدر رغبتي في التوقف عند السلاح الذي استخدمه الكارهون لنا ضدنا، والمتمثل في سلاح فن السينما أو التمثيل بشكل أوسع.

الفن السينمائي ما زال مدار بحث ونقاش طويل مفصل في أوساط العلماء منذ أن عرف العالم الإسلامي فن التمثيل وإنتاج المسلسلات والأفلام. وما خرجنا من نقاش تلك المسألة بإجماع أو على أقل تقدير، غالبية كبيرة لصالح المسألة، بل كغيرها من المسائل، أدى النقاش إلى انقسام، بل وزاد حتى وصل إلى التعـصب للرأي لدرجة الإساءة إلى المخالف في الرأي ووصفه بصفات لا تليق.

نتعرض بين الحين والحين إلى اختبارات شبيهة بالذي حصل مع الفيلم الهابط المسيء للإسلام ورمزه الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تخرج أفعالنا عن دائرة ردود الفعل التي تصل أحياناً إلى الفعل العنيف الذي يخرج عن الهدف الأساسي، فينسى الناس على ماذا يعترضون مثلاً أو لم خرجوا في مظاهرات أو اعتصامات.. وهذا دليل على أننا نفتقد مفهوم إدارة الأزمات.

إدارة الأزمات ليست تلك الأفعال التي تأتي بعد وقوع الأزمة، بل ذلك التوقع المسبق والتهيؤ للأزمة ودراسة كافة أسباب الاحتواء والعلاج، حتى إذا ما ظهرت أزمة عرف قادة إدارة الأزمات كيفية التعامل معها، فيتم احتواؤها ومعالجتها بكل إيجابية، لا مجال فيها لردود أفعال متشنجة تضر أكثر مما تنفع.

 نعود للموضوع مدار البحث اليوم.

لابد أن ندرك جميعاً أننا نعيش عصراً متسارعاً في أفكاره وعلومه وتقنياته، وما لم نواكب الحاصل ونستثمر المفيد، فإن اللحاق بالركب بعد أن يسير بسرعته الرهيبة، أمرٌ ليس باليسير، والتخلف مصيره الابتعاد عن الواقع سنوات طويلة، وإدراك ما يفوت لن يكون سهلاً أيضاً كما قد يتصوره البعض.

الفن السينمائي واحد من المجالات التي اختلفنا عليه وما زلنا، فيما آخرون استمروا وأبدعوا وأتقنوا وتقدموا فساروا بعيداً. بل صاروا يستغلون هذا الفن في تحقيق مآربهم وأهدافهم، ولا يجوز لأحد أن يعترض على ذلك، فمثلما أنت تفكر، هم يفكرون، وكما أنت تخطط وترغب في تحقيق أهدافك، فكذلك الآخرون، والعبرة بمن يتمكن ويستثمر الموجود.

ما يحدث إلى الآن مع الفن السينمائي هو تكرار لسيناريوهات ماضية وقعت ولم نستفد منها مطلقاً.. فقد ظهر الراديو فهابه الناس في مجتمعاتنا وأدخلوه إلى عالم البدع، والضلالة، وكل ضلالة في النار.. إلى أن استأنس الناس به وعرفوا أنه ليس أكثر من صندوق يسمعون فيه القرآن والأخبار وغيرها، فما المشكلة ولماذا تم تحريمه وتفسيق وتبديع من يمتلكه ويستخدمه؟!

تكرر الأمر مع التلفاز ثم مع التطورات المصاحبة له، من فضائيات وأطباق لاقطة واستمر الجدال سنوات حتى تبين أن هذا التلفاز الذي تم تحريمه لأنه يعرض الراقصة والممثلة وما شابه، هو نفسه الذي يعرض الداعية ويدعو للدين والأخلاق، وخطب الجمعة وما شابه.. وصار من يحرم هذه البدع هو أكثر من يستخدمها لاحقاً!! مما يعني أن الإشكالية ليست في العصر بقدر ما هي في العقليات التي لا تستطيع التعامل مع كل جديد، فتلجأ للتحريم والمنع زمناً حتى يطمئن قلبها، ويكون الركب قد فات وسار زمناً هو الآخر، ونظل كعادتنا في ذيل ذاك الركب..

الآن يتكرر الأمر مع الفن السينمائي الذي لم نتوحد على رأي بشأنه. إن ايجابياته تفوق سلبياته، وليس لأن البعض يستخدمه في الشر فهو شر كله، ويدعونا إلى أن نترك جله. الأمر أوسع من هذا بكثير، فإن الكاميرات السينمائية مثلاً التي تصور أفلام الخلاعة، هي نفسها التي تصور أفلام الاستقامة.. هي آلات صماء بكماء عمياء، أنت من يحركها ويديرها وليس العكس.. إنها هي نفسها التي قام مصطفى العقاد رحمه الله باستخدامها لتصوير فيلمي الرسالة وعمر المختار، واستفاد منها تلفزيون قطر لإنتاج أروع المسلسلات التاريخية مثل مسلسل عمر.

لو أننا اتفقنا على أهمية استثمار الفن السينمائي منذ عقود مضت، واعتبر العلماء دراسته وامتهانه والاشتغال به وتوجيهه نحو مقاصد حسنة، من فضائل الأعمال والمهن، لكان لهذا الفن شأنه في العالم الإسلامي وكذلك في العالم أجمع.

إنك حين تبدع وتتقن هذا الفن في إنتاج أعمال توضح تاريخك وتبرز قادتك ورموزك وتعاليم دينك وأخلاقياتك وقيمك إلى الآخرين، وبالطريقة التي هم يعملون عليها أيضاً، فلا شك من وصولك إلى الجميع، وإلا كيف سيطرت الثقافة الأمريكية الاستهلاكية على العالم كله، لولا إبداعهم وإتقانهم في هذا الفن.

نحتاج أن يخرج العلماء من الإطارات التي هم أنفسهم وضعوها حولهم فلا يخرجون منها إلا بشق الأنفس بدواعي سد الذرائع وما شابه.. نحتاجهم للخروج من التفكير المبني على نظرات الشك والريبة من كل ما هو جديد. نحتاج إلى علماء يعيشون العصر بروح الإسلام الراقية التي كان عليها الصحابة الكرام والتابعين، الذين لو كانوا سلكوا هذا المسلك الذي عليه علماء ديننا في القرن الواحد والعشرين، ما استفادوا من فتوحاتهم في تطوير علوم وخبرات الآخرين بل والإبداع فيها، رغم أنها كانت جديدة عليهم.

إذن نحن أمام إشكالية لابد أن تجد حلاً، بل وسريعاً أيضاً. إن كنا نعقد المؤتمرات والندوات والمنتديات لمناقشة التحديات التي تواجه الأمة على الصعيد السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي، فإن موضوعنا هذا مدار البحث، هو تحد كبير أيضاً لا يقل عن أخواتها سالفات الذكر.. الأمم اليوم تتصارع ليس بالأسلحة العسكرية فحسب، بل بسلاح المعلومة، والتقنية، والسينما، والإعلام، وغيرها.. وعقلية محاربة الخصم بالسيف والمنجنيق لابد أن تتغير. فنحن واستناداً إلى آية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة… ” نحتاج أن نعد من القوة الشيء الكثير لأجل تحقيق هدف الترهيب الذي يعني فرض احترامك بعلمك وقوتك، فهكذا النفس البشرية تحترم القوي والمبدع.

لاشيء يمنع أبداً استخدام فن السينما في تحقيق مقاصدك الطيبة وأهدافك الإنسانية النبيلة، وتقدم نفسك للعالمين بالصورة التي أرادها الله وأرادها رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. هذا فن وصناعة وأنت من يسيطر ويحدد الأطر والضوابط لها.. إن إنتاجاً فنياً على غرار مسلسل عمر، يمكنه فعل الكثير من التأثير في الآخرين، ولو تتم ترجمته مثلاً في مثل هذه الظروف، فسيكون أبلغ رد أو أفضل رسالة نوضح للعالمين فيها ما هو الإسلام ومن هو الرسول الكريم وصحبه الكرام.

وعلى غرار هذا المسلسل، يستمر الإنتاج السينمائي أو صناعة السينما بهذا المستوى وأفضل، وسنقارع المخالف الراغب في التشويه والإساءة بنفس السلاح الذي يستخدمه، ولكن ليس للتشويه بالطبع، ولكن عبر إنتاج عمل راق بديع يكون قادراً على كشف رداءة بضاعة المخالف، حين يقارن الآخرون البضاعتين معاً.. وبهكذا تفكير ومنهجية، نخدم ديننا، لا أن نشتت الجهود والأوقات في ردود أفعال تخيب وتضر غالب الأحيان.

ما المطلوب؟

• عقد مؤتمر يضم علماء دين وخبراء في صناعة السينما ورجال أعمال وممثلي دول، يكون المقصد هو الخروج بنتائج تدعو إلى إنشاء صناعة سينما، بعد أن يكون قد تم حل المعضلات والإشكاليات التي منعت من السير في هذا المجال عقودا طويلة، كالنظرة إلى الفن السينمائي أو التمثيل وتجسيد الشخصيات التاريخية وغيرها من مسائل الخلاف.

• الدعوة إلى إنشاء ما يشبه مدينة الإنتاج السينمائي في الولايات المتحدة المسماة بهوليوود، تتوفر فيها كافة مستلزمات هذه الصناعة وتكون ممولة من قبل أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي مبدئياً ثم تتحول إلى الاعتماد على التمويل الذاتي.

• اعتماد ثقافة التمثيل ضمن المناهج الدراسية، ومن فوائدها تنشئة جيل مُحاور لا يهاب التعبير عن أفكاره أمام الجمهور.

• دعم المبدعين الأدباء والشعراء وكتّاب السيناريو وإنشاء معاهد متخصصة في كافة مجالات صناعة السينما بمقاييس عالمية.

• اعتماد الدول العربية والإسلامية لمخطط نهضة سينمائية عبر إرسال بعثات إلى مراكز الإنتاج السينمائي العالمية للاستفادة من خبراتها، واستقدام كبار المدرسين والمتخصصين لمعاهد التمثيل والفن السينمائي لإفادة أكبر شريحة من الدارسين.

• تعزيز قيم الأخلاق في صناعة السينما وربط مناهج تعليم الفنون بالقيم الإسلامية حتى يتحول الفن إلى رسالة حضارية وليس مجرد مهنة أو تخصص.