القرآن الكريم وعلومه حاضران في دراسات كليات الشريعة وأصول الدين في الجامعات العربية والإسلامية، متواجدان في الرسائل العلمية و الأطروحات الأكاديمية والندوات والأمسيات الثقافية والمقالات الفكرية ، لكن حضورهما كثيرا ما يأخذ طابعا إما :

  • رسميا ً، بمعنى : أن هاهنا مسلمين مهتمين بالقرآن وعندهم شغف به وبعلومه ، متحمسين لتعاليمه مؤمنين بأحكامه ، و هاهنا دولة تدين به وبمنهجه تسمى دولة إسلامية فلا مجال للمزايدات عليها !.
  • أو طابعا ًنظريا ًأكاديميا ًيهتم بالمنهج الفكري والبحث العلمي ، يستغرق في التعريفات والتقعيدات ويستطرد في الجزئيات وسرد التواريخ ، ويفصل في الردود والمجادلات والمناظرات !

والسؤال : هل أثرت هذه الدرسات والبرامج والفعاليات على واقع الناس ، وهل أحيت القرآن في النفوس والأرواح والوجدان والأخلاق ، و كم صوبت من انحرافات الناس الإيمانية والفكرية والثقافية والأيدلوجية والقيمية ؟!

إن هذين الطابعين مع أهميتهما –  أحيانا – كثيرا ما يأخذان الناس بعيدا عن روح القرآن وهديه ونوره ، ويبعدانهم عن حضوره المؤثر في حياتهم .

والأولى برجال العلم وأهل المعرفة والمختصين بعلوم القرآن وتفسيره أن يبسطوا هدايته لجمهور المسلمين بعيدا عن التعقيد الفلسفي والتراكيب الصعبة ، و أن يشرحوا لهم بكل سلاسة كيفية التفاعل معه و تنزيله على واقعهم ، و عرضه لهم بوحي الأصالة وتجدد المعاصرة .

الأولى برجال العلم وأهل المعرفة والمختصين بعلوم القرآن وتفسيره أن يبسطوا هدايته لجمهور المسلمين بعيدا عن التعقيد الفلسفي والتراكيب الصعبة

كذا الحال في الدراسات الجامعية والرسائل الأكاديمية والبرامج والفعاليات ، فالأجدر بها إعطاء الجهد الأكبر من بحثها وأنشطتها لأثر القرآن في الأمم وكيف ساهم ويساهم في نهضتها وبعثها والتجديد فيها وإحيائها ، ومدى تأثيره العميق في منظومة الاجتماع وشبكة العلاقات ، وتوجيههم السليم المنضبط المتزن نحو العمران وخلافة الله في الأرض .

ولو أنك سألت طالبا في العلم الشرعي أو مختصا في دراسات القرآن الكريم فقلت له – على سبيل المثال لا الحصر – : كيف ازدهر القرآن بالجيل الأول ورفع شأنهم ورقى بهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس ؟ فلربما لم يستطع الإجابة أو تلكأ على الأقل ! ولا تجده يصدر عن إجابة تروي عطش المتسائل .

والسبب : ضعف الدراسات والبحوث في ذلك وضحالتها وقلة المعتنين بها والمؤصلين لها ، مع حاجة الأمة الماسة لمثل هذه الإجابة الملحة .

لقد أوجز الحق سبحانه في كتابه العزيز بعثه للأمة القدوة ، الفريدة بين الأمم والتي حملت الرسالة للعالمين ، بقوله على لسان إبراهيم – عليه السلام – : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) البقرة : 129 .

فخلاصة القول : إنه لا بد من تلاوة القرآن العظيم في الجيل المتربي والأمة المراد بعثها . وليست أي تلاوة ، إنها تلاوة متأنية تصدر عن إيمان عميق وعقيدة راسخة بالقرآن و صلاحيته كدستور حياة ، تلاوة للتلقي والعمل لا لمجرد الترديد والحفظ . قال الله في هذه التلاوة : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) البقرة 121 .

لا بد من تلاوة القرآن العظيم في الجيل المتربي والأمة المراد بعثها . وليست أي تلاوة ، إنها تلاوة متأنية تصدر عن إيمان عميق وعقيدة راسخة

عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنـزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله. تفسير الطبري . وهذا كلام جامع منه يعبر عن فقه ومعرفة رضي الله عنه وأرضاه .

يتبع ذلك : تعليم الكتاب والفقه فيه ، ومعرفة أحكامه وهديه وإعجازه من قبل الربانيين وأولي الاختصاص ، وتعريف للناس كيف يحيون به ويعيشون معه وله و يطبقونه على أرض الواقع ، كحال الحبيب المصطفى – عليه الصلاة والسلام –  حين وصفته السيدة عائشة – رضي الله عنها – :  ” كان خلقه القرآن . مسلم .

يتحصل بعد ذلك – بعد التلاوة والتعليم – التزكية المطلوبة بعمومها والطهارة المبتغاة بكل جوانبها ، وهذه هي الثمرة من وراء التلاوة والتعليم .

وأي تلاوة وتعليم لا يوصلان إلى مثل هذه النتيجة – أي التزكية – على مستوى الأمة والأفراد ، فثمة مشكلة في تطبيقهما ،  بحاجة لدراسة وتمحيص وإعادة نظر ومزيد تأمل بالخلل ( أين وكيف ) . وهذا واقع أمتنا كما نرى ونشاهد ، وهو المراد اليوم من أرباب العقول وأولي العلم والاختصاص بحثه ودراسته و التدقيق فيه .