استوقفتني العبارة في كتيب للدكتور طهجابرالعلواني عن الوحدة البنائية في القرآن المجيد، فارتأيت أن تكون عنوانا لقراءة سائدة؛ تنتشر اليوم في فضائنا الإسلامي بعد أن كانت توصيفا لليهود في علاقتهم بالتوراة ! وإذا كان التشبيه بالحمار ينفي حقيقة القراءة، مادام هذا الأخير لا يقرأ ولا يفكر ولا يتعظ ،إلا أننا نتابع اليوم على مواقع الأنترنيت وصفحات التواصل الاجتماعي وضعا قرائيا تصح تسميته بالحمارية، لاقترابه المتزايد من حالة “حمل الأسفار” دون فهم أو دراية، أو إدراك لطبيعة النص القرآني وخصوصيته.

إن القرآن الكريم، حين يدعو إلى النظر والتفكر والتدبر والاعتبار، فهو يفسح المجال للقارئ كي يُجري مقارنة بين الآيات المسطورة وأختها المنظورة في الكون من حوله؛ سواء كانت كوكبة الموجودات الدالة على عظمة الخالق، أو آثار الحضارات الغابرة الدالة على فاعلية السنن. غير أن «الحمارية» تؤسس لفصل معيب بين القراءة ومقاصدها الحقة، وأولى تجلياتها: حفظ الحروف وإضاعة الحدود.

توقف الإمام الحسن البصري يوما عند قوله تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}-سورة ص:29- فقال: وما تدبر آياته إلا اتباعه بعقله. أما والله ما هذا بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: إني لأقرأ القرآن فما أسقط منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، فما يرى له القرآن في خلق ولا عمل. وتلك حال يُعاينها المرء اليوم لدى فريق استهوته المكاسب الدنيوية للتلاوة، واحتج بأن القرآن مُتعبد بتلاوته رغم أن الآيات والأحاديث تنص على خلاف هذا القول إن أخِذ على إطلاقيته.

للقراءة هنا أحوالها النفسية التي تؤسس لفارق دال بين النص الإلهي وغيره من كتابات البشر. ودليل ذلك أننا نجد في السيرة النبوية وحياة الصحابة مواقف تؤكد دور التهيئة القلبية في إعطاء التلاوة مدلولها الحق. منها استحباب ترديد الآية لاستشعار مدلولها وتدبر معانيها. فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك}-المائدة: 78- وكذلك فعلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها مع قوله تعالى: { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم}-الطور: 27-.

ومنها إظهار الحزن بالبكاء أو التباكي، وهي الحالة التي يعدها النووي في “التبيان” صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، لأنها تتولد من تأمل آيات التهديد والوعيد مع استحضار الغفلة والتقصير في الطاعة. ومن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص، فليبك على فقد ذلك، يقول الغزالي، فإنه من أعظم المصائب !

ومنها كذلك الحض النبوي على معايشة دائمة للقرآن من خلال ورد يومي لا يغفل عنه صاحبه. يقول صلى الله عليه وسلم:” من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل” (صحيح مسلم :رقم747). وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرون في الغفلة عنه أمرا جللا، كما في خبر أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه حين قال:” نمت البارحة عن وردي حتى أصبحت، فلما أصبحت استرجعت؛ وكان وردي سورة البقرة، فرأيت في المنام كأن بقرة تنطحني.

وتحديد الورد هنا مسألة مقيدة هي الأخرى بكمال الفهم، وقد نبه السلف على أن الباحث في القرآن عن اللطائف والمعارف، أو المشغول بإحدى مهمات الدين له أن يقتصر في ورده على قدر لا يحصل به إخلال، ومن لم يكن من هؤلاء فليستكثر من غير خروج إلى حد الملل. وبذلك تظل القراءة حتى في يوميتها واسترسالها مشروطة بتوازن بين الحروف و الحدود !

ومن تجليات القراءة «الحمارية» ذاك السعي الحثيث لتجريد النبوة من مرتبتها الروحية، لكونها تلقيا للعلم بغير وساطة من العقل أو الحواس. وهو التلقي الذي يغيظ بعض القلوب فتندفع نحو قراءة مباشرة، تسقط التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

نشأت بوادر تلك القراءة في زمن الصحابة، غير أنها كانت مواقف أفراد لم يكتب لها الانتشار. فحين اعترض أمية بن خالد على صلاة السفر لأنه لا يجدها في القرآن، رد عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : يا أخي، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل.

وعن أيوب السختياني أن رجلا قال لمطرف بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: و الله ما نريد بالقرآن بدلا؛ ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا.  وهكذا ظل التجاذب محدودا قبل ظهور الفِرق وتداول شبهاتهم بين الجهلة من أبناء المسلمين.

أما في العصر الحالي فإن المتشبعين بالسياق البروميثيوسي للمعرفة – علم الأساطير – ، يجددون «الحمارية» عبر محاولاتهم المتكررة لإضفاء البشرية على النص الإلهي، ونبذ فاعليته في لحظة زمنية سيطر خلالها العلم على الطبيعة، وبات قاب قوسين أو أدنى من اختراق المجهول !

وتأخذ القراءة «الحمارية» تجليا ثالثا عبر سلوكات تفشت بشكل محزن في بلاد المسلمين، وفي مقدمتها العلاج بالرقى الشرعية، واستئجار مقرئين عند القبور. حيث تحول الاستنجاد بالقرآن للشفاء أو تفريج الكرب إلى إساءة قراءة، وتعريض النص الإلهي للاستخفاف !

إن نصوص الكتاب والسنة واضحة في التأكيد على أن القرآن الكريم شفاء، غير أن المنطلق التجاري المحض أساء لهذا العطاء الرباني حين انفلت من التنبيهات الشرعية. وهو الأمر الذي تفطن إليه ابنالقيم في (الجوابالكافي) بقوله:” إن الأذكار والآيات أو الأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء”. وبتعبير آخر فإن فشل العملية يؤدي إلى فقدان الثقة في النص القرآني، بينما يعود السبب حقيقة إلى جهل الراقي أو المعالج بالتشخيص ومعرفة أسباب المرض.

وأما استئجار مقرئين عند القبور فتلك قراءة متهافتة يحار اللبيب في إدراك القصد من ورائها. وحين سئل شيخ الإسلامابنتيمية عن المقرئين بالأجرة وهل تصل قراءتهم إلى الميت، نفى رحمه الله مصداقية الفعل بقوله: “إن القرآن الذي يصل ما قرئ لله، فإذا كان قد استؤجر للقراءة لله، والمستأجر لم يتصدق عن الميت، بل استأجر من يقرأ عبادة لله عز وجل لم يصل إليه”.

تتبدد « الحمارية» بالجمع بين حسن القراءة واستقامة الفهم، وبذل الجهد ليكون التفاعل مع النص القرآني حجة للمرء لا حجة عليه. وهو الوضع الذي يحسن بحملة القرآن أن يطابقوا الخطى مع الطريق لبلوغه، فإن الله تعالى مثلما يرفع بهذا الكتاب أقواما، فإنه يضع به آخرين !