في سنة 1952 كتب أبو فهر محمود محمد شاكر “القوس العذراء”، وأهداها “إلى صديق لا تبلى مودته”، كان يعني بذلك الصديق الأستاذ شفيق متري صاحب دار المعارف، ويبدو أن حديثا مقتضبا حول إتقان العمل وتجويده دار بينهما في ذلك اللقاء البكر، لكنه أثار في نفس أديب العربية أبي فهر كوامن أوحت له بهذه الرسالة البديعة التي كتبها أبو فهر –كما يقول زكي نجيب محمود- بيانا لصلة القربى بين العمل والفن، وإعلانا بأن العمل الذي لا يبلغ مبلغ الفن، يكون دليلا على فساد الفطرة عند صانعه.

يعني أبو فهر بـ”القوس العذراء” –أول وهلة- ما استطرده الشاعر والصحابي الشماخ بن ضرار الغطفاني في قصيدته (عَفَا بَطْنُ قوٍّ مِنْ سُلَيْمَى فَعَالِزُ) حول قوس عملها بدوي اسمه عامر على أحسن ما تكون القسي العربية، ويبدو أنها أخذت من نفسه مأخذا بعيدا فتحولت في وجدانه من قوس عادية إلى قطعة من روح ذلك الأعرابي، ثم اضطرته الأيام إلى بيعها في أسواق الحجيج، ومع أنه أعطي فيها أضعاف قيمتها المادية إلا أنها بكاها وحزن عليها لأن قيمتها الفنية والنفسية لديه لا تقدر بثمن.

تلك هي الحكاية الساذجة لقصة القوس، ولكن أبا فهر استطاع أن يحولها من عود مجرود حاد الرأس إلى رمز حيوي يمثل مكانة القوس في الوجدان العربي الأصيل وما ترمز إليه من استغناء بالكدح الذاتي وعزة النفس، كما ترمز للصراع بين الفن باعتباره ثروة رمزية والثروة باعتبارها معطى ماديا، وكيف يتنازع الاثنان (الفن – الثروة) السلطة والسطوة في النفس البشرية وفي واقع الحياة، ثم تنتصر الثروة في نهاية المطاف –غالبا-.

ويظهر هذا التنازع في مشاعر الأعرابي عامر وهو يراوح بين النظر إلى الأشياء الثمينة التي منحه التاجر ثمنا لقوسه وبين قوسه التي أصبحت حبه وقلبه بل وأنس حياته وسعادته، ويستسلم الفنان (الأعرابي) في الأخير لواقع الحياة والناس، الناس الذين لا يرحمون الفقير ولا يقفون إلى جانبه ولو كان فنانا قادرا على إعادة إبداع العالم من خلال فنه:

يساومُ بالماَل عنها؟ نعمْ! إذا لبسَ البؤسَ حرٌّ أذلّْ

إذا ما مشى تزدريه العيونُ، وإن قَالَ رُدَّ كأنْ لم يَقُلْ

نعم! إنه البؤسُ!! أينَ المَفَرُّ من بَشَرٍ كذئابِ الجَبَلْ

لقد انتصرت قساوة الواقع على رهافة الفن، فاستسلم عامر وباع قوسه التي عاشرها كل تلك السنين، إنه هنا يصور ضياع الفن حين يضيع الفنانون، وضياع الفنانين والمبدعين هو في تركهم تحت رحمة واقع الحياة التي لا ترحم الفقير المعدم، ولكن الفن في الحقيقة لا يستسلم بسهولة، إنه حين يذعن يعكس إذعانه في فن آخر، شعر أو رسم أو صورة فيعيد تشكيل سلطته على النفوس إذا فقد سلطة الحياة.

قدم أبو فهر لقصيدته الملحمية “القوس العذراء” بمقدمة فلسفية مثقلة بالدلالات، حيث قارن بين الفن والعمل مجسدا الفرق بينهما في التمييز بين ما يقوم به الإنسان بمقتضى الإرادة والعاطفة، وما يقوم به الحيوان بمقتضى الغريزة والجبلة، فكل الحيوانات –إلا الإنسان- “يسير على نهج لاحب، يؤيده هدي صادق لا يتبدل، ومهما تباينت مسالكه في حياته، وتنوعت أعماله في حياطة معيشته، فالنهج في كل درب من دروبها هو هو لا يتغير، والهدي في كل شأن من شؤونها هو هو لا يتخلف”.

ويضرب المثل على هذا التطابق في الهدي ومسالك العيش الذي يسم حياة الحيوانات بالنمل، فيقول: “تولد الذرة من النمال وتنمو، وتبدأ سيرتها في الحياة، وتعمل فيها عملها الجد، وتفرغ من حق وجودها، ثم تقضي نحبها وتموت، هكذا هي مذ كانت الأرض وكانت النمال: لا تتحول عن نهج ولا تمرق عن هدي، وتاريخ أحدثها ميلادا في معمعة الحياة، كتاريخ أعرق أسلافها هلاكا في حومة الفناء، لا هي تحدث لنفسها نهجا لم يكن، ولا هي تبتدع لوارثها هديا لم يتقدم”.

لكن الإنسان مختلف في هذه عن الحيوان، فهذا الثبات الغريزي ليس من خصائصه، إنه دائم النزوع إلى التحسين والتبديل، فما إن اهتدى إلى تسخير الكون له حتى أخذ يتأنق فيه، يرفع بذوقه وتقديره ويخفض بهما، فعندئذ “حاك الشك في صدر اللاحق، حتى قدح في تمام صنع السابق، فاستدرك عليه، وقلق الوارث، حتى خاف تقصير الذاهب، فاستنكف الإذعان إليه”.

ويفسر أبو فهر إلى سر تعلق الإنسان بما ينتجه، بنات فكر وبنات أيدي، ذلك بأنه استودعها “طائفة من نفسه، وفتن بما استجاد منه، لأنه أفنى فيه ضراما من قلبه، وإذا هو يستخفه الزهو بما حاز منه وملك، ويضنيه الأسى عليه إذا ضاع وهلك”.

ويأتي الفرق بين الفن والعمل عند أبي فهر من حيث كان العمل مما “تَعَجَّلَهُ الإنسان لقضاء حاجته، وذاك –أي الفن- مما تَأَنَّى فيه وصافاه للاستمتاع بلذته”، ثم تفرق بينهما الغاية فـ”الإنسان إذا جَوَّدَ العملَ، فمنتهى همه أن يجعله على قضاء مآربه أعون، أو يكون له في أسباب معيشته أنجح وأربح، أما الفن، فثمرة لغير شجرته، يسقيها متأنق من ينابيع ثرة في وجدانه، وينضجها مشغوف بلاعج وجده وافتتانه، في غير مخافة مرهوبة، ولا منفعة مجلوبة، فذاك إذن بطبيعته مستهلك ممتهن، وهذا لحرمة نشأته مذخور مكرم”.

هناك قضية أخرى بالغة الأهمية تثيرها القوس العذراء، وهي مسألة قيمة الشعر العربي ما يحتويه من قيم فكرية وفلسفية وأدبية عالية، كان بإمكانها أن تسهم في سعينا الحديث للنهوض على مستوى الأدب والفكر والفلسفة، لكن حالة الانبتات والجهل بالتراث حرمتنا من هذه الذخائر المركوزة في تراثنا منتظرة أمثال شاكر ليخرجوها للناس.

ثم إنها تطرح سؤالا ذا علاقة بالقضية الآنفة الذكر، لماذا نُهْرَعُ إلى الرموز والأساطير في الآداب الأجنبية ونبني منهما فكرنا الأدبي المعاصر، ونهمل ما ينطوي عليه تراثنا منها، لست أعني أن التواصل الثقافي غير ضروري، بل هو واجب، ولكن الذات الناقصة سيكون تواصلها مع الآخر على حسابها استلابا وذوبانا لا إفادة واستفادة.

وتثير “القوس العذراء” قضية أخرى هي أن الشعر العربي ما يزال بحاجة لقراءة جديدة تنظر إليه باعتباره (ديوان العرب)، أي مستودع فلسفتهم ورؤيتهم للحياة والكون والإنسان، ذلك بأن القراءة الجمالية الشكلية سيطرت على نقده أول الأمر فتحول من ذخيرة فكرية إلى أداة إمتاع فقط، ولست أعني هنا القضية النقدية القديمة، هل الشعر للتطريب أو للتهذيب، فلتلك سياق آخر لا يتنزل عليه هذا الكلام الذي نفيض فيه الآن.

لم تجد القوس العذراء بعد ما تستحق من اهتمام لدى القارئ والناقد العربي، وليست الاعتذارات التي قدمها إحسان عباس لعدم الاحتفاء بها كافية –رغم وجاهتها من ناحية-، ذلك أنه هو نفسه أرجأ الكتابة عنها حتى عام 1982 مبديا أسفه على ذلك التأخير.

يمكنني القول إن رسالة “القوس العذراء” ما تزال بعذريتها، فمتى سنمنحنها ما تستحق؟