كيف نستطيع أن نحرك جانب التقوى في النفس البشرية بما يخدم الفرد نفسه أولا ثم الجماعة المجتمعية؟

الإنسان بما أنعم الله عليه من نعمة القلب والعقل والارادة المستقلة يستطيع ترجيح خيار التقوى في النفس البشرية. وكما جرت العادة فإن الجانب الذي يطور ويحسن سوف يسود ويكون لديه التأثير الكامل على قرارات وممارسات الفرد والجماعة.

فالأقوام السابقة كانت بعض من قيمها ومرجعياتها حسنة وجيدة ولكن بمجيء الإسلام جاء معه كتاب تشريعي متكامل يرشد الناس ويقودهم لتحقيق أهداف أخلاقية وإنسانية عليا، وتطوير وسائل غائية بأقل جهد وأقصر طريق. وفي هذا الصدد يقول تبارك وتعالى:”إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين”.

(فالخروج من الظلمات الي النور- السعادة في الدنيا والآخرة- تذكر القيم- سبل السلام- اتباع الصراط المستقيم (أي أقصر طريق وأحسن طريق) – إحياء الإنسان الميت في الشهوات واتباع الظنون عن الله والناس والوجود – الحصول على نور العقل)، كل هذه أهداف يحققها القرآن للعبد الذي يريد الفلاح.

الآيات الدالة على ما سبق:

“الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد” سورة ابراهيم (1). (يخرجك من ظلمات ونار الشهوات والرغبات والأهواء الفاسدة إلى نور الحرية منها والتقوى الأخلاقية في السلوك والترقي في الدرجات والرتب عند الله).

“طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ” سورة طه. (يعطيك السعادة النفسية بأن تكون أنت المتحكم في نفسك والمحرر لها بواسطته).

“كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”. (يهديك الي تذكر القيم ابدا ما حييت فتكون تجسيد للقيم الاخلاقية والانسانية).

“يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ”. (هداية الي سبل الحصول علي ونشر السلام المجتمعي مع الناس).

“وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا”. (روح قرانية اي القيم والاهداف تحيي الانسان الميت في الشهوات والظنون والهوي).

“يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ”. (نور القران ينزل على نور العقل فيهديك إلى النور الإلهي).

 

ولهذا احد أهم الواجبات على الإنسان هي أن ينمي ويطور جانب التقوى في النفس من أجل أن يعيش حياة في سلام مع نفسه ومع الآخرين والعالم أجمعين.

هنالك سؤال مشترك وشائع يطرحه أغلبية الناس:

ما هي أقصر طريقة لتحقيق الأهداف والغايات في الحياة؟ وما هي مكونات تلكم الطريقة؟

إجابة السؤال الأول موجودة في باطن الآية المذكورة سابقا فحينما قال تبارك وتعالى:” يهدي للتي هي أقوم” ، فذلك يعني في مفهومنا المتواضع أن القرآن الكريم هو مركز الهداية، والهداية بدورها هي المنهجية الشاملة التي تقود لتحقيق الغايات بأقصر الطرق الأخلاقية وأكثرها فعالية ودقة. وبما أن القرآن الكريم هو كتاب ” القيم العليا” الذي لا يشوبه تشويه أو تحريف أو زيادة أو نقصان أو تغيير أو تبديل أو نسخ “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”. صدق الله العظيم.

في ضوء ما سبق ذكره أشير إلى المعادلة التالية:

القران الكريم  + قيم وأهداف عليا   =    ” الهداية ” الصراط المستقيم  +  تحقيق التقوى السلوكية في العمل

فالسؤال الذي يطرج نفسه الآن هو: ما هي مكونات هذا الصراط المستقيم أو صراط الهداية؟

بتأمل الآيات القرآنية في الكتاب المسطور، وتدبر الآية: “اهدنا الصراط المستقيم“. نجد أن سياق الآية يشير إلى أن هنالك صراط مستقيم. وعند تامل الآية التالية في سورة الأنعام :

“قلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ “- الأنعام –152-151.

عند تأمل الجزء الأخير من الآية الكريمة نستخلص أن الله ذكر كلمة: “هذا صراطي مستقيما فاتبعوه” بعد أن سرد قبلها مكونات الصراط المستقيم العشرة، والتي بينها الله بتسعة مكونات أمر الله بها. وأيضا بين أن هنالك طرقا أخرى غير الصراط المستقيم تقود إلى الضلال والتشتت والضياع الغائي في الحياة. فهذه المكونات العشر تسمى القيم الإنسانية العليا التي تمثل معيار التعامل مع الناس في المجتمعات المتنوعة وهي المرجعية الإنسانية التي يجب على كل دولة أن تطبقها في المجتمعات المتنوعة دينيا وثقافيا. هذه القيم هي الوصايا الإلهية التي وصى الله بها جميع البشر في جميع العصور، وأرسل من أجلها الرسل والأنبياء فهي المحرمات القطعية التي حرمها الله تعالى.

فهنا يتضح من الآية أن الصراط المستقيم مكوناته عشرة، أما هدف هذا الصراط  فهو الحصول على التقوى السلوكية في الحياة اليومية فيرجعك القرآن إلى وطنك الأول (الفطرة الإنسانية) لتكون هي معيار السلوك والتعامل مع الناس والله والوجود.

فهذه القيم الإنسانية هي القيم العليا للإنسانية جمعاء، وصفتها أنها مشتركة بين جميع البشر إلا ما وراء الزمان والمكان. مصدر هذه القيم الانسانية هي الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها، وجاء القرآن والرسل بالآيات ليزيلوا الرين والظلمات التي غطت الفطرة البشرية من كثافة العادات والتقاليد الشعبية المختلفة الموورثة، وظنون جماعية وفردية عن الكون والوجود، ثم بعد إزالتها تكون الفطرة الإنسانية هي معيار التعامل مع كل شيء (الله والكون والوجود والناس).

النقطة الثانية هي أن هذه القيم موجودة قبل نزول الأنبياء والرسل لأن مصدرها الفطرة الموجودة في الإنسان، أما الرسل والأنبياء فكانت مهمتهم هي تبيين القيم الإنسانية التي اختفت وراء كثافة الثقافات والتقاليد والعادات الموروثة من الأجيال السابقة تاريخيا أو من الثقافة الحالية المعاصرة، فيعود الناس إلى التعامل بها فتكون معيار السلوك. هذه القيم هي 14 قيمة إنسانية فطرية مشتركة مذكورة في القرآن. فهي تعتبر المحرمات الإلهية القطعية التي حرمها الله تعالى، وهو الوحيد الذي له سلطة التحريم في الكون كله.