يقودنا التأمل في الكتّاب وطرائقهم في الكتابة إلى الاعتقاد بأن الكُتّاب ينقسمون إلى فسطاطين لا ثالث لهما.. فهم إما كاتبٌ يشبه البرق، وإما كاتب يشبه المصباح.

والأمر ليس مجرد شبهٍ ظاهري، ولا هو مجاز أو تمثيلٌ أدبي قسري، ولكنه تقسيم حقيقي لنمطين من أنماط الحياة ينتمي كل واحد منهما إلى نسق مغاير لرصيفه.

أما الكاتب الذي يشبه البرق، فهو صنعةٌ ربانيةٌ صرفة، موهبة متفجرةٌ لا دخل للصنعة فيها إلا قليلاً، وهو طاقةٌ ضخمةٌ باهرة، تظهر لفترة قصيرة للغاية، وقد يتبعها دويٌّ وضجيج قصير يليه همود غير محدود.. وهو غير منتظم ولا متوقع، وربما كثر ظهوره في مدة محدودة ثم انقطع طويلاً أو قصيراً، وربما عاد أقوى مما كان أو كما كان.

وهناك الكاتب الذي يشبه المصباح، مصنوع بالكامل، يعتمد على الكدح والكد لا انتظار الفكرة “والإلهام”، طاقته منخفضةٌ، وإضاءته محدودة المكان، محدودة القوة، لكنها إضاءة يمكن الاعتماد عليها؛ لديمومتها إلى حين، وانتظام ظهورها وامتداده، والطاقة تصل إلى المصباح من طريق مرسوم سلفاً، ولها مصدر واضح معروف، فانقطاع الطاقة عن المصباح معروف السبب، ويمكن التعامل معه.

يمكننا -مع كثير من التجوز والاعتباط- أن نضع من نجده من أرباب الأقلام في أحد هذين النمطين: نمط البرق، ونمط المصباح.. وسنجد الكثير من السمات السائدة -أو المتوقعة- في كل واحد من هذين النمطين.

أما الكتاب المنتمون إلى نمط البرق فيمتازون بموهبتهم الثرية، وعاطفتهم الدافقة، وقدرتهم التعبيرية العالية، فهم لا يعانون الكثير من أجل صقل قدراتهم الكتابية لأنها ولدت معهم ربما.. ولا ينفي هذا حاجتهم إلى تغذيتها بكثرة القراءة ولا تفاوتهم في البراعة حسب تفاوتهم في المران، لكننا نستطيع حين نقارن بينهم وبين كتاب نمط المصباح أن نقول: إن كتاب نمط البرق تبدأ رحلتهم في عالم الكتابة من سفح الجبل، أما كتاب نمط المصباح فتبدأ رحلتهم من حفرة عميقةٍ، وعليهم أن يكدوا ويجهدوا جهداً هائلاً قبل أن يصلوا إلى السفح. والظريف أن كثيرين منهم يفلحون في الوصول إلى القمة قبل الآخرين الذين بدؤوا رحلتهم في ظروف أفضل.

وكتّاب نمط البرق يتفجرون حيناً، ويجفّون حيناً آخر، تنطلق أقلامهم على السجية فيكتبون ويكثرون، أو تحتبس عليهم فلا يلحّون عليها، لأنهم لو كتبوا شيئا في حالة الاحتباس تلك فلن يعجبهم وسيتوهمون أنه لن يعجب أحداً، مادة الكتابة في داخلهم تفيض حيناً وتغيض حيناً، لعوامل في كيمياء المزاج قد لايعرفونها، ولا يتحكمون بها.. لذا يحصل أن ينقطع الكاتب من هذا النوع طويلاً، ثم يعود فيكفر عن انقطاعه بضخ الكثير والكثير من النتاج.. ويعمد بعضهم إلى استثمار ساعات الرخاء فيكتب فيها الكثير، ويدخر ما كتبه لوقت الشدة والقحط!

وهذا اللون من الكُتّاب يحمل أحياناً سماتٍ جبرية، فهو يؤمن بالإلهام، ويكتب ربما ما لا يعيه، ولا يجد غضاضة في الاعتذار عن تسليم نصٍ طُلِب منه ووعَد هو بتسليمه، بدعوى أن “الوحي” لم ينزل عليه بعد، أو أن مزاجه ليس مواتياً.

وربما يعلّق بعض الكتّاب من هذ النوع بدء المشروع على حادثة غريبة تحصل مثل باولو كويلو الذي  لا يشرع في كتابة روايةٍ حتى يحصل على ريشة بيضاء!!

كما أن كتّاب نمط البرق مسوفون بالفطرة، ولولا أنّهم محكومون بمواعيد لتسليم النصوص ما أنجزوا شيئاً يذكر، فهم يكتبون تحت ضغط الوقت، ويؤجلون الشروع في الكتابة إلى اللحظة الأخيرة..

ويبدو أن هناك دافعين يلحان على الكتّاب من نمط البرق فيدفعانهم إلى الإنتاج: دافع تحقيق الذات، ودافع لقمة العيش!

قرأتُ في مقالٍ مترجم عن الانجليزية للكاتبة “ميجان مكاردل” نماذج مثيرة للدهشة وما هو أكثر من الدهشة عن تسويف هذا اللون من الكتّاب، واحد من هذه النماذج زميلٌ لها، سألته: كيف يمكنه كتابة مقالات منتظمةٍ يبلغ حجم الواحد منها ٨٠٠٠ كلمة، فأخبرها أنه يؤجل البدء في الكتابة لأسبوعين أو ثلاثة، ثم يقوم بأعمال لا علاقة لها بمهمته، كتنظيف مخبأ السيارة، والحديث إلى زوجته لساعات، وبعد يومين من التهرب، يخشى أن يداهمه موعد تسليم النص دون أن ينجز، فيجلس ويبدأ الكتابة!

والأمثلة كثيرة على هذا اللون في حالات مختلفة من الكتاب العرب والعجم، يحجب عن إيرادها ضيق المساحة.

والكتّاب من نمط البرق يكتبون بسرعة، كما يظهر البرق بسرعة، وحين يفرغ الواحد منهم من كتابة نصه؛ ينظر إليه نظرة سريعة، ثم يعتمده أو يمزقه، لا يبالون كثيراً بمسألة المراجعة أو التصحيح والتعديل.. ويروى عن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله أنه كان من هذا النوع.

وهذا النزوع إلى كتابة النص بشكله النهائي تقريباً منذ المرة الأولى قد ينتج في النهاية نصاً مهلهلاً أو يحتوي على الكثير من المناطق الرخوة التي تستلزم فحصاً ومعالجةً قد لا يقوى عليها الكاتب ذاته، فيلجأ إلى مسعفٍ يراجع النص ويرممه.

ولأن ألبرتو مانغويل واحد من المنتمين إلى نمط البرق، فقد شكر في مقدمة كتابه “فن القراءة” صديقه كريغ ستيفنسون، الذي قرأ مسودة الكتاب وقدّم مقترحات حول بنية الكتاب وترتيبه واختياراته، واقترح حذف بعض المقالات وإضافة مقالاتٍ أخرى، وأمضى وقتاً مزيداً يراجع فقرات معينة ويفكر ملياً في رجاحة كل قطعة من الكتاب، وهو ما يعترف مانغويل بأن صبره لا يسعفه كي يفعل ما فعله صديقه.

الكاتب الكندي ألبرتو مانغويل

وكتّاب نمط البرق يشبهون سكان المناطق التي يهطل فيها المطر بغتة، فهم يحملون مظلاتهم معهم ولو كانت الشمس ساطعة. كان الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ كل ليلة عدة مرات ليكتب خاطرة ما، وروي عن أحد العلماء أنه كان يغادر الحمّام العمومي أثناء اغتساله عدة مرات ليكتب خاطرة قبل ان تطير وتُنسى.

أما الكتاب من نمط المصباح.. فهم يؤمنون بالجهد أكثر من إيمانهم بالإلهام، ويعتقدون أن الذي يصنع الكاتبَ هو المران والمعاناة لا الموهبة والمعجزات، وهم يعدّون الكتابة عملاً، مثل أي عمل آخر، ويعتبرونها مهنةً، كأي مهنة أخرى، ميكانيكا، بناء، سباكة، صبغ، خياطة، نجارة. إنهم يلتزمون بالكتابة كما يلتزم صاحب متجر البقالة بفتح دكانه كل صباح، وكما يذهب الحمّال إلى الميناء في كل يوم.

ولأنهم يفقدون الموهبة أو لا يعلقون عليها الكثير من الأمل؛ فإنهم يُعدون أنفسهم لرحلةٍ طويلة من المران ربما امتدت لسنوات، ويتقبلون الرفض، ويتعايشون مع الإخفاق المتكرر لدرجة تثير العجب والدهشة، لكنهم في النهاية يصلون! وأرسكين كالدويل خير مثال على هذا، وسيرته حافلةٌ جداً بصنوف من الجلَد لا يقوى عليها إلا ذو عزم عظيم.

وهم أصحابُ تضحية، ونفَس طويل، والتزام ذاتي يجبر المرء على احترامهم، وربما قعد الواحد منهم يعمل على نص واحد لعشر سنوات، كما فعل ارنست همنغواي مع نص “الشيخ والبحر” الذي حيزت له بسببه جائزة نوبل بجدارة.

وهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أن المسودة الأولى ليست هي النص، إنما مادة خام يلزمها جهد مضن كي تصبح شيئا يستحق القراءة!

وهم يعتقدون أن الخيال يمكن تطويعه مع المران والتعود، وأن الإنسان يستطيع أن ينتج نصاً بمجرد أن يقرر، مثلما تستطيع السيارة أن تتحرك بمجرد أن يقرر قائدها.

وهم منضبطون جداً في مواعيدهم، ويكرسون الوقت والجهد لأعمالهم..

ويمكن للقارئ الحصيف كلما قرأ سيرة ذاتية لأحد الكتّاب، أو طالع مقابلة معه: أن يقرر ببساطة: إلى أي هذين النمطين ينتمي ذاك الكاتب؟ البرق؟ أم المصباح؟!