ليست  الكتابة البحثية جهدا ذاتيا يبذله المرء فيضمن خروج العمل البحثي بصورة متقنة لكنها إضافة إلى ذلك جملة قواعد ومهارات أساسية يمكن للمرء أن يتدرب عليها ليطور مهاراته الكتابية، وعملنا هنا ينصب على التعريف ببضع قواعد أولية يمكن أن تسهم في تطوير مهارات الكتابة البحثية، وهي لا تشكل في مجموعها نسقا متكاملا  وإنما هي بعض القواعد  التي أمكن استخلاصها من خبرة ذاتية في الكتابة والتحرير ومن بعض القراءات ذات الصلة، وبالإمكان أن نعبر عنها في النقاط الموجزة التالية:

 التمركز حول الموضوع

يتمركز العمل البحثي دوما حول الموضوع، خلافا للمقال الصحفي الذي قد  يتمركز حول فكرة أو مجموعة أفكار متسقة، وهناك بضعة اشتراطات في الموضوع القابل للبحث أولها القابلية للتحديد؛ سواء كان تحديد موضوعي ببيان الحدود الفاصلة التي تفصله عن غيره من الموضوعات أو تحديد زماني أو مكاني أو تحديد لزاوية التناول، وهو ما يعني ألا يكون الموضوع مترامي الأطراف لكنه لا يعني في المقابل أن يكون شديد الضيق بحيث يعجز الباحث عن دراسته، وفي المجمل لا يُدرس الموضوع كوحدة داخلية مغلقة مكتفية بذاتها وإنما يُفضل أن يدرس كنسق مفتوح على ضوء علاقاته بغيره من الموضوعات ذات الصلة بحيث يبدو الموضوع المبحوث هو الأصل والموضوعات الأخرى توابع له، وهذه الكيفية لا تسمح فقط باكتشاف علاقات التأثير والتأثر بين الموضوعات أو الوحدات المختلفة وإنما تصل بالأفكار وإلى العمل البحثي ككل إلى درجة التركيبية المطلوبة وتنحو به بعيدا عن الأحادية والهشاشة .

جدل الفكرة والعبارة

هناك علاقة وثيقة تربط الفكرة والعبارة، فالعبارة هي الوسيط الذي تنتقل من خلاله الفكرة من الكاتب إلى المتلقي، وهي التجسد الواقعي للأفكار المجردة، والعلاقة بينهما يفترض أن يسودها التوازن بمعنى أن يكرس الباحث جل جهده لضبط الفكرة وإحكامها ثم تأتي العبارة تاليا بحيث تخدم الفكرة وتصل بها إلى القارئ دون تحريف، لكننا نلحظ في الكتابات العربية خلاف ذلك إذ يعمد أحدهم إلى الإلغاز عبر استخدام تراكيب لغوية غير متداولة وربما لجأ لحشو بحثه باصطلاحات في غير سياقها لا ليعبر عن أفكار سطحية وحسب وإنما ليعبر عن “اللاشيء” أحيانا، ولذا بالإمكان القول أن تعقد العبارة وغموضها لا يعني عمقا في الفكرة كما أن بساطة العبارة لا تعني بساطة الفكرة، بل ربما كان الواقع خلاف ذلك؛ فالباحث ربما يبذل جهدا مضاعفا لكي يخرج الفكرة المركبة في قالب بسيط ييسر عملية الفهم، وبإمكاننا هنا أن ندلل بكتابات جمال حمدان وزكي نجيب محمود وعبد الله دراز التي حوت أفكارا مركبة في قوالب لغوية سلسلة يسيرة.

الذات البحثية وحضورها

العملية البحثية ليست موضوعية تماما فهي وإن كانت تتأسس على مادة علمية أولية من بيانات أو معلومات إلا أنها ليست إلا جزءا يسيرا منها، فلا يصح أن يقصر الباحث جهده على جمع المادة وإعادة تدويرها ونشرها معتقدا أنه قد قدم بحثا جديدا، وإنما جوهر العملية البحثية هو في العمليات المعرفية التي تلي جمع المادة من وصف وتحليل ونقد وما إلى ذلك وهي عمليات لا توصف بالموضوعية لأنها ترتبط بذات الباحث واختياراته وانحيازاته المعرفية، وليس هذا المظهر الوحيد للذاتية فالعملية البحثية تتأسس على الفروض- وليس الحقائق- التي يسعى الباحث إلى إثباتها خلال البحث، وإشكالية وتساؤلات فرعية مستمدة منها، ولا يتصور وجود بحث من دونهما أصلا، وبهذا المعني تصطبغ العملية المعرفية بالذاتية لكنها ليست الذاتية الأيديولوجية التي تجعل الباحث يسخر بحثه لخدمة أهداف أيديولوجية وإنما الذاتية المعرفية التي هي أدوات اعتماد الباحث لدى القارئ.

 بين الباحث والقارئ

هناك علاقة افتراضية تجمع الباحث والقارئ، ومن الضروري أن يكون الباحث على وعي بأهميتها وكيفية تحقيقها، وهي تبدأ مع مقدمة البحث التي يجب أن يجيب فيها الباحث عن تساؤلات من نوعية لماذا يدرس هذا الموضوع دون غيره، وما أهمية هذا الموضوع -ليس فقط للباحث وإنما للقارئ كذلك-، وبالتالي عليه أن يعلل أسباب تلك الأهمية المفترضة فإن أخفق في مسعاه انقطعت الصلة إذ ليس هناك ما يحمل القارئ على متابعة عمل لا يشعر بأهميته، أما إن أفلح فبالإمكان تعزيز العلاقة عبر وسائل من قبيل مراعاة التدرج في طرح الأفكار والانتقال من البسيط إلى المركب وبيان ذلك تفصيلا، وعدم القفز إلى استنتاجات لم تتضح كيفية الوصول إليها، واستخدام لغة واضحة بعيدة عن الإلغاز.

 المتابعة و التحرير

الكتابة البحثية عملية مركبة تتضمن أدوات وعمليات عديدة، ولذلك يُنصح ألا يكتب الباحث بحثه دفعة واحدة بل على مراحل فينطلق من مسودة أولية يتم تعديلها والإضافة إليها تباعا حتى يكتمل البحث في صيغته النهائية، وأثناء ذلك يجدر أن يولي جهده إلى التماسك المنطقي إذ ربما فقد التماسك والوحدة مع تمدد البحث، ووجود مخطط بحثي محكم هو أحد الضمانات التي تكفل التماسك والوحدة، إذ يعمل كمشد بين الفقرات والأفكار المتتابعة مهما تمددت، وافتقاده يعرض عملية الكتابة لأن تصبح نسقا مفتوحا قابلا للإضافة الدائمة دون وجود معيار حقيقي يحدد صلتها بموضوع البحث. وعقب الانتهاء تماما من عملية الكتابة يجدر أن يعيد الباحث النظر فيما كتب من منظور المحرر لا المؤلف فيراجع عمليات الترقيم والصياغات اللغوية والنحوية والهوامش والببليواغرافيا، والأخيرة غالبا ما تكون بحاجة إلى استكمال وضبط، إذ يرجئها غالب الباحثين إلى المرحلة الأخيرة من البحث.

وكما أسلفنا فإن هذه العناصر لا تشكل وصفة ناجزة لكنها تساعد الباحث أن يطور من مهاراته، ويحتاج الأمر إلى اشتراطات أخرى من قبيل وجود أطروحة بحث جيدة وافتراضات قابلة للتحقق وإشكالية بحثية وما إلى ذلك من مقومات البحث الأكاديمي.