في كتابه حول الطاوية والفيزياء يقول فريتجوف كابرا (Fritjof Cabra) ” إن نظريتي الكم والنسبية في فيزياء القرن العشرين، تدفعانا لرؤية قريبة جدا من رؤية البوذية والهندوسية أو الطاوية للعالم، ويزداد التشابه بين الجانبين كلما ذهبنا نحو وصف العالم ما دون الميكروسكوبي….،إن التماثل بين الفيزياء الحديثة وبين الصوفية الشرقية كبير للغاية،ويصل أحيانا حد صعوبة الفصل فيما إذا كان من صنع الفيزياء أو من صنع الصوفيين الشرقيين.

 

الفقرة السابقة تفرض سؤالا محددا..كيف يتوصل الإنسان غير المزود إلا بحدسه قبل 2500 سنة للمبادئ ذاتها التي تتوصل لها الفيزياء المعاصرة وقد تسلحت بكل تكنولوجيا العصر؟ وهل يحسن توظيف ذلك في استشرافنا للمستقبل؟ تلك هي إشكاليتنا.

هنا لا بد من التوقف عند مسألتين طرحهما كابرا في الفصل الثاني من دراسته في الإشارة إلى أننا لا بد أن نتفق أولا حول “طبيعة المعرفة التي نناقشها، واللغة التي عبرت عنها هذه المعرفة، فهناك الوعي العقلي ،وهناك الوعي الحدسي..والأولى تنبع من علاقتنا بالأشياء، ومن خلال تمييزها وتقسيمها وتصنيفها ومقارنتها وقياسها فكل الأشياء أعداد كما اعتقد فيثاغوروس..وحتى نقوم بذلك فإننا نختار من كل هذا الجهد ما يبدو لنا الأهم..ومن هنا يبدأ قصور هذا النمط من المعرفة النسبية.

أما المعرفة المطلقة،فهي تعبير عن حالة وعي غير عادية تؤسسها الخبرة الحياتية وتظهر على شكل “تأمل أو حدس” وأداتها أو تقنيتها هي الاستبصار (clairvoyance) أو الاستبطان(introspection) ، والواقع في هذه المعرفة المطلقة متداخل ومتشابك وغير متمايز في جوهره، وعند نقل هذا الحدس إلى عالم اللغة فإننا نتخلى عن الكثير، لأن الأمر يصبح كمن يعتقد أن الخريطة والأرض هما نفس الشيء ، إن المعرفة المطلقة تنبت من رؤية ميتافيزيقية تفوق الواقع وتصبح تجربة غير حسية له وتصبح تنويرا تجريبيا.

ذلك يعني أن وراء تباين تقنيات المعرفة إرث فلسفي عميق،ومن غير المجدي غض الطرف عن بعضها لأن في ذلك استهانة بإرثها الفلسفي،وهو ما يشكل بداية الخطأ المعرفي الذي تعمل الدراسات المستقبلية على تجنب أوزاره.

بين الكمي والكيفي:

هل المناهج الكمية والكيفية تختلف عن بعضها من ناحية تقنية فقط أم ان الأمر يخفي في ثناياه تباينا في الفلسفة التي تقف وراء كل منهما؟ ولعل هذا التباين بين المنهجين غير منبت الصلة عن الجدل الفلسفي بين المنظور المثالي والمنظور الوضعي الذي احتدم مع أواخر القرن التاسع عشر ، ذلك يستوجب منا التمييز بين مستويات ثلاثة تتباين من خلالها هذه التقنيات ومناهجها،وهي :

أ-المستوى الأنتولوجي: بناء فرضيات حول الواقع

ب- المستوى الإبستمولوجي: معرفة الواقع

ج-المستوى المنهجي: تحديد الأدوات الخاصة لمعرفة ذلك الواقع.

ويفترض المنهج الكمي بتقنياته المتعددة القدرة على تحويل الظاهرة إلى عدد من المؤشرات القابلة للقياس،أو العمل على تطويع المؤشرات الكيفية إلى مؤشرات قابلة للقياس الكمي( مثل تحليل المضمون وتحويل النص إلى عد للكلمات أو قياس للمساحة أو الزمن الذي يستغرقه نص ما..الخ).

وفي المستوى الانتولوجي للمنهج الكمي ، يتم تناول الظواهر على أساس فرضية مؤداها أن هناك حقيقة واحدة( استنادا لما أرساه المنظور الوضعي) وأن الظاهرة لها وجودها المستقل عن نمط الإدراك الإنساني لها.

أما إبستمولوجيا فإن كلا من الباحث والظاهرة كيانان مستقلان عن بعضهما ،وهو ما ييسر بحث الظاهرة دون تأثير منها على الباحث أو تأثير من الباحث عليها، وهو ما يجعل القياس للمتغيرات المكونة للظاهرة وتحديد التأثير المتبادل بين هذه المتغيرات يتم في إطار من عدم التدخل(value-free framework).

أما أدوات التحليل الكمي-في المستوى المنهجي- فهي المقيدة بمعادلات ونماذج رياضية أو طرق قياس وتحليل محددة (كالإحصاء، وبناء النماذج الرياضية..الخ، والتي تظهر في الدراسات المستقبلية في عدد من التقنيات .