يحتلّ الكون مساحة كبيرة في الثقافة الإسلامية يتناسب مع عظمته وقوّة حضوره في حياة البشر وحياة جميع المخلوقات، نجد ذكره في القرآن الكريم وفي سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم وسيرته وفي أدبيات المسلمين المختلفة، لكن عصور التخلّف ألقت بظلالها على علاقة المسلم بالكون حتى فهم الناس أنّ بينهما جفاء وسوء تفاهم أو أن لا دخل للكون في الإسلام ولا دخل للإسلام في شؤون الكون، وأصبح هذا الموضوع شأنا دنيويا بحتا احتكر الاشتغال به الغربيون وحدهم فخسرنا نحن مبدئيا وعمليّا ، وهذا الوضع يقتضي أن نعود إلى تأسيس علاقة صحية طيبة بالكون باعتبار ذلك عبادة لله وزيادة في المعرفة وواحدا من أهمّ طرق الرقيّ الإنساني.

وتكمن نقطة البداية في إرساء أساليب سليمة للتعامل مع الكون المحيط بنا من كلّ جانب، فكما تعلّم المسلم من دينه حسن التّعامل مع الله بالعبادة ومع الناس بالأخلاق الرّفيعة فقد تعلّم منه حسن التّعامل مع الكون بأنواع من المعاملات.

والكون هو ما يسمّونه الطبيعة وما فيها من تراب وماء  وبحار وجبال ونباتات وحيوانات وطيور وحشرات وأسماك ونحوها، وهي خلق من خلق الله بل بعضها أمم لها تنظيماتها وسنن تحكم حياتها ومسيرتها وعلاقتها بمحيطها: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: 38] وهي تؤدّي حقوق العبوديّة لله عزّ وجلّ بطريقتها الّتي ألهمها الله إيّاها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44]

وضع الخالق سبحانه هذا الكون الفسيح متنوّع العناصر في خدمة الإنسان، وهو ما يسمّيه القرآن الكريم التسخير (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم: 32 – 33].

(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثيّة: 13]

وقد كان فضل الإسلام على البشريّة عظيماً حين جاء بحقائق تبيّن أن الكون في خدمتها وليس عدوّاً لها كما تصوّر بعض العقائد، ولا هو شيء مقدّس تعبده وتخدمه كما في عقائد أخرى، وهذا ما أتاح للعلماء والمستكشفين والمخترعين أن يبحثوا ويتعرّفوا على سنن الكون ويستخرجوا خيراته بدل أن يصارعوه أو يخافوا منه أو يعبدوه، فالعلاقة بالكون تعني الاستكشاف المعرفي والانتفاع الماديّ متنوّع الأوجه والأشكال كما تعني الاستلهام الجمالي، يقول الله تعالى عن قطعان الحيوانات الأليفة: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)  [النحل: 6]، ويلفت النظر إلى جمال البساتين: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) [النمل: 60] ويدعو إلى الاستمتاع بالنظر إلى الثمار في أغصان الأشجار: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعام: 99] وهكذا يجمع بين الإشباع الحسّي والوجداني لحاجات الإنسان ليرتقي به ماديا ونفسيا ويحدث التوازن في شخصيته وحياته.

وبذلك أنهى الإسلام العلاقة المرضيّة بالكون المتمثّلة في اعتزاله أو عبادته أو الصراع معه، وأسّس علاقة صحيّة تعود إلى وحدة الخلق من ناحية  ووحدة الخالق  من ناحية أخرى – لأنّ الإنسان جزء من الكون ، وهما معا جزء من خلق الله الواحد –  وتتيح التّسخير للمنفعة الماديّة والوجدانيّة بتنميّة الرّغبة في الاستكشاف ورهافة الحس الجمالي.

بهذا الانسجام بين البشر والكون يصبح هذا الأخير عاملاً من العوامل الّتي تدلّ على الخالق وتقود إليه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190 – 191]

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصّلت: 53]

فالكون مصدر للمعرفة العلميّة – وهذا ما يسلّم به الجميع –  والمعرفة الإيمانيّة – وهو ما يعتقده المسلمون –  باعتباره كتاب الله المجلوّ الّذي تتناغم آياته الصامتة مع آيات الكتاب الناطقة لتسوق الناس إلى ربّهم بملاطفات الإحسان ، وكم أجرمت الحضارة الغربيّة في حق الدين والعلم والإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون وقصرت التعامل على المعرفة الماديّة والاستغلال من منطلق الصراع مع الطبيعة وقهرها وإخضاعها للرجل الأبيض، ثم أجرمت مرّة أخرى حين تقدّمت ركب البشر في الاستغلال الفاحش لثروات الكون الأرضيّة والجوفيّة والجويّة فاختلّ التوازن البيئيّ بشكل ينذر بالوبال على البشرية كلّها، أمّا الإسلام فقد علّم أتباعه التعامل مع الكون برفق للمحافظة على التوازن  بين بقائه إلى ما شاء الله وبين إشباع حاجات الخلائق كلّها، لذلك ينبغي صوغ منظومة معرفيّة وسلوكيّة قوامها صيانة ثلاثيّة للكون من التلف والتلوّث والتبديد بالإسراف نجد أصولها في القرآن والسنة ، النهي عن الإسراف والتبذير،النهي عن التبوّل في الماء، النهي عن إبادة أيّ فصيل من الحيوانات أو الحشرات، الإشادة بأعمال الزرع وغرس الأشجار، الأمر بالاعتدال في الاستهلاك .

كون صديق للإنسان

 الثقافة المستقاة من القرآن والسنّة تبني تصوّراً متكاملاً لعلاقة المسلم بالكون نجد فيه أن هذا الكون صّديق للإنسان وكأنّه كائن حيّ له إحساس وشعور (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)   [سبأ: 10]

“أحد جبل يحبّنا ونحبّه ” – حديث رواه البخاري ومسلم – فكأن للجبال عواطف نسجت شبكةً من التجاوب بينها وبين عباد الله الصالحين ملؤها الحب والتعاضد في تمجيد الله تعالى، بل إن جبل أحد اهتزّ هزّة طرب شعر بها من كان عليه، فخاطبه الرسول – صلّى الله عليه وسلّم –: ” أثبت أحد فإن فوقك نبيّاً وصدّيقاً وشهيدين” .

وتبلغ رعاية الكون للإنسان مداها حين يحتضنه ويرعاه في ظروف قاسية ، فالنار تحسن معاملة إبراهيم – عليه والسلام – بدل أن تحرقه كما أراد خصوم دعوته : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)  [الأنبياء: 68-69] .

والبحر يحتضن موسى – عليه السلام – وهو رضيع فارق أمّه وأهله ويحفّه بالرعاية حتّى يبلغ مأمنه : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص7:] والكهف الموحش – وهو مظنّة الهلاك – يؤوي الفتية المؤمنين الفارّين بدينهم فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في الدور القصور بين أهلهم الكافرين : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16]

الريح تسارع  بحمل البشرى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنّ ابنه المفقود حيّ يرزق: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [يوسف:94] ويرفق البحر والحوت معا بيونس – عليه السلام – فيخرج من المحنة العجيبة سالما لم يغرقه الماء ولم يأكله الحوت وإنّما ابتلعه فحسب : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ *فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصّافّات: 139-144]

ويصطفّ الكون مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود فينادي الشجر والحجر المسلم ويدلّه على مخبأ اليهوديّ ليخلّص الأرض من رجسه وظلمه – من حديث رواه البخاري ومسلم .

الكون مهدنا ومصدر رزق الله لنا وكتاب مفتوح نقرأ فيه آيات التوحيد ونلمس دلائل القدرة والعظمة : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14]

وما زال في هذا الكون البديع من الأسرار والمنافع والمفاتيح ما يغري المسلمين بالسعي في جنباته واستكشاف كنهه واستخراج خيراته وسلوك دروبه للوصول إلى الحقائق العلمية والإيمانية التي تزيدنا رفاهية وتزيدنا علما بالله تعالى وقربا منه .