هناك فلسفات تقيم حق الفقراء في أموال الأغنياء على أساس عقد مفترض بين الغني والفقير بمقتضاه يتعهد الغني بإعطاء الفقير جزءاً من ماله ، لأن الفقير قد ساهم بعمله مع رأس مال الغني في الكسب الذي حققه الغني ، ويفسر أصحاب هذه الفلسفة الجوع الذي يعاني منه المحرمون والبؤساء بعدم قيام الغني بإعطاء الفقير ما تعهد له بمقتضى العقد غير المكتوب.

وهذه الفلسفة وإن بدت عليها الصحة فإنها تخفي في طياتها الأحقاد والضغائن لأنها تشعر الفقير بأن ما عند الغني من مال هو ناتج عمل الفقير ، وثمرة جهده وكفاحه ، وما لديه من ثروة إنما هو دماء الكادحين وعرق العاملين ، فالغني غاصب لهذا المال وسالب لتلك الثروة ، ومن ثم فإن هذه الفلسفة توغر صدر الفقير الفقير على الغني ، وتدفعه إلى بغضه والحقد عليه ، وتبرر له حرمان الغني ماله ، وسلب ثروته ، وتأميم ممتلكاته.

أما الشريعة الإسلامية فإنها تجعل ما عند الغني مال الله ، رزقه لعباده ، وأوجب عليهم فيه حقاً معلوماً للسائل والمحروم ، وليس عرق الفقير ودم الكادح ، وإننا لنجد هذا التفسير الإسلامي واضحاً فيما ذكره الإمام الرازي – رحمه الله – في تفسيره ، فقد ذكر في بيان الحكمة من وجوب الزكاة واعتبارها حقاً معلوماً للسائل والمحروم وجوهاً منها:

الأول: “أن الإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان أولى بإمساكه ، لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة ، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيا في تحصيل ذلك المال ، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره ، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فهنا حصل سببان كل منهما يوجب تملك ذلك المال ، أما في حق المالك فهو سعى في اكتسابه وتحصيله أيضاً شدة تعلق به ، فإن ذلك التعلق أيضاً نوع من أنواع الحاجة.

وأما في حق الفقير فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به ، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان ، فيقال:حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به ، وحصل للفقير حق الاحتياج فرجحنا جانب المالك ، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيراً منه ، توفيقاً بين الدلائل بقدر الإمكان “.

الثاني: أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية ، إذا أمسكه الإنسان في بيته بقى معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال ، وذلك سعى في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية.

الثالث: أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى:{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود:6).

والأغنياء خزان ، الأموال التي في أيديهم أموال الله ، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ولا يملك ملء بطنه طعاماً ، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفواً صفواً ، إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول المالك لخازنه : اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي”.

تلك هي الحكم العالية التي تفسر لنا الأساس الشرعي في إيجاب حق الفقراء في أموال الأغنياء.

إن الإسلام لا يقول للفقراء: إن ما بأيدي الأغنياء ناتج عملكم وعرق جبينكم ، وأنكم أصحاب الحق فيه ، وعليكم أن تقاتلوهم لحرمانهم لكم منه ، لأن هذا ليس بصحيح ، لأن المال مال الله ، يرزقه خلقه بأسباب شرعية ، ليس فيها ظلم لعامل ، ولا هضم لحق كادح ، ولكنه رزق الله وفضله يؤتيه من يشاء من عباده ، قال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل:71).

وقال سبحانه:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} الإسراء:30.

وقال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} الأنعام:166.

وقال عز وجل:{ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} النساء:32.