حينما أهبط الله تعالى آدمَ عليه السلام إلى الأرض، ومعه زوجه، بعد أن تداركتهما رحمة الله بالتوبة والإنابة؛ أنزل إليهم المنهج، وزوَّدهم بالهداية التي ليس بعدها ضلال ولا شقاء: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} (طه: 123).

ولأن الإنسان من طبيعته النسيان والغفلة، خاصة إذا تقادمت عليه العهود ومرت السنون؛ فقد أرسل الله لعباده رسلاً يهدون الخلق لطريق الحق، ويذكِّرون الناسي والغافل، ويزجرون العاصي والمعرِض: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 165).

ثم خُتمت مسيرة الأنبياء والمرسلين بمجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاءت رسالته للناس جميعًا، على امتداد الزمان والمكان، حتى تقوم الساعة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

وإذا كانت مسيرة الأنبياء قد ختمت، فإن ثمة مسيرةً باقية تقوم مقامها، ألا وهي مسيرة المجددين.. فهؤلاء المجددون يناط بهم تذكير الناسي وتنبيه الغافل وزجر العاصي، تمامًا كما كانت وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.. وفي الحديث الشريف: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” (رواه أبو داود في الملاحم عن أبي هريرة).

غير أن هؤلاء المجددين لا يُوحَى إليهم، وليسوا بمعصومين، كما هو شأن الأنبياء.. وإنما هم بشر من البشر، لكن يتمتعون بما وهبهم الله تعالى من ذكاء الفهم، وحسن العمل، وإخلاص القصد، والقدرة على التخلص من الأفهام الخاطئة والسلوكيات المنحرفة؛ التي تراكمت عبر الأزمنة، حتى حجبت الناس عن هداية المنهج، وجلت نور الوحي خافتًا في دنيا الناس..!

والمفارقة أن هؤلاء المجددين- سواء في الفهم والاستنباط، أو في الدعوة والسلوك العملي- ينشأون في الدنيا كما ينشأ بقية الناس، ولا يتميزون في أول الأمر عن غيرهم.. ثم إذا هم بعد أن يكتمل فهمهم، ويستجمعون طاقتهم للإصلاح والتغيير، يَبْدُون أمام الناس كما لو كانوا آتين من زمن خارج الزمان، ومن مكان مغاير للمكان- أو “غُرباء” عن دنيا الناس، حسب تعبير الحديث الشريف المعروف الذي وصف حال من يسعون للإصلاح عند فساد الناس- لأنهم لم يستسلموا لِمَا نشأوا عليه، ولم يركنوا لما ألفوه مع سائر الناس؛ وإنما بادروا إلى التقويم والتصحيح والتغيير.

وهم في هذه النقطة أيضًا يُشْبِهون الأنبياء؛ حيث إن الأنبياء قد نشأوا وسط أقوامٍ أضلهم الشيطان وتسلط عليهم، ثم لما منَّ الله عليهم بالهداية وأمرهم بالتبليغ، كانوا بالنسبة لقومهم أمرًا منكرًا، كأنهم آتون من زمان غير الزمان.. ولم يجد هؤلاء الذين تسلط عليهم الشيطان، مفرًّا تجاه أنبيائهم إلا أن يتهموهم بشتى التهم؛ التي يحاولون بها أن يبرِّروا لأنفسهم: لِمَ كان هؤلاء الأنبياء مختلفين عنهم في أفكارهم وسلوكهم؟! وما هذا الذي جاء به بعضُ قومهم؟! {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 52- 55).

نعود فنقول: إن المجددين يَبدون في منهج التجديد الذي يسلكونه، كما لو كانوا آتين من زمان غير الزمان، ومن حال غير الحال.. وهذا أمر طبيعي، رغم ما تبدو فيه من غرابةٍ للوهلة الأولى؛ لأن هؤلاء المجددين لو كانوا سايروا الزمان الذي نشأوا فيها، وتماشوا مع الحال الذي عَرَفوه وتربوا في أحضانه؛ لما تيسَّر لهم مجاوزته ولا مخالفته، ولما حاولوا ردَّه إلى الأصول الصحيحة والأفهام المستقيمة. بل كان المتصور منهم- حينئذ- أن يسيروا مع السائرين، وألا يخالفوا الرَّكب حتى وهو قد ضل الطريق..!

لكن الإشكال هنا ليس مجاوزةَ المجددين للزمان وللحال- بل هذا أمر طبيعي كما أوضحنا- وإنما الإشكال هو: كيف يُمْكِنهم مجاوزة الزمان ومخالفة الحال أصلاً، وهم محاطون بهذا الزمان والحال من كل جانب؟!

إن مجاوزة الزمان والحال- عند حصولها- ليست هي الأمر العجيب، فحسب.. وإنما الأعجب منها: كيف يمكن أن تحصل هذه المجاوزة ابتداءً؟! فالإنسان من العسير عليه جدًّا أن ينفك عن بيئته، وأن يفارق زمانه، وأن يتخلص من أوضاع نشأ عليها وتربى في أحضانها..

وإذا أردنا أن نشير إلى بعض الأمور التي يمكن بها للإنسان أن يفارق زمانه- مفارقةً إيجابيةً، بالطبع- وأن يتخلص من أوضاع خاطئة تحيط به إحاطة السوار بالمعصم؛ حتى يتمكن من مجاوزة ذلك وإصلاحه، وينتقل من مجاراته إلى التأثير فيه.. فإن عليه:

– أن يرتبط دائمًا بالنبع الصافي للمنهج- أي بالقرآن الكريم والسنة النبوية- ذلك النبع الذي تكفَّل الله بحفظه، وتعهَّد ببقائه، ولم تنله يدُ التحريف والتبديل.. فهو نبع باقٍ على اختلاف الزمان والمكان، لم يفقد صفاءه، كأن عهده بالوجود أمس! وفي الحديث الشريف: “تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسنتي” (رواه مالك في الموطأ، والحاكم في المستدرك).

فإذا اختلفت الآراء، وتشابكت الرؤى؛ فإن الارتباط بالقرآن والسنة هو المخرج من عتمة الرأي، ومن ضلال الفهم، ومن أَسْر العادات.

– أن يدرس تجارب المجددين والمصلحين من قبل؛ ليتعلم الدرس، وليبدأ من حيث انتهوا.. فتتكامل حلقات التاريخ، وتتراكم جهود المجددين والمصلحين.

ومن العبث أن ينفصل المرء عن ماضيه، وألا يحاول أن يستفيد منه ويُراكِم على الخبرات التي حصلت فيه ومثَّلت جهودًا كبيرة في الإصلاح والتغيير.

– ألا يستسلم لضغط اللحظة الراهنة، أو لأثقال الزمان والحال المحيطين بالإنسان؛ إذ كيف يمكن له أن يفارق زمانًا وحالاً قد استسلم لهما.. وهذا يتطلب بلاشك همة عالية ومخيلة واسعة، تجعلان الإنسانَ يتحلى بالرؤية الإبداعية الاستشرافية، وبالأمل الذي لا ينضب.

– أن يدرك الإنسان أن الحياة سجال بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ.. وأن أحدًا لا يُكتَب له النصر الدائم أو الهزيمة الدائمة.. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140).

إذن، من المهم ألا يستسلم المجددون ودعاة الإصلاح لأَسْرِ الزمان أو لضغط الحال؛ وإنما عليهم أن يمدوا أبصارهم نحو النبع الصافي، ويطلقوا الخيال لمجاوزة الزمان، وأن يتحلوا بالأمل على نحوٍّ يدفعهم للعمل والإبداع: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).

ولعل من المناسب أن نختم بالإشارة إلى ما يقال عند مدح صاحب عمل إبداعي غير مسبوق، بأنه: شخص سابقٌ لعصره!.. فنعم؛ المجددون سابقون لعصورهم، وآتون من خارج الزمان الذي نشأوا فيها؛ وإلا لكانوا مثل آحاد الناس، لا يتميزون عنهم في فهم صحيح، ولا في عمل دؤوب، ولا في أمل راسخ.. ولما استحقوا وصف “التجديد” من الأساس!