شهد مطلع القرن الماضي تأسيس مؤسسات ثقافية حديثة عهد إليها بتسيير الشأن الثقافي، من مثل: الجامعات والجمعيات العلمية والنوادي الأدبية، والمجامع اللغوية التي باتت مسؤولة عن صون اللغة مما يتهددها وتطويرها لتلائم التطور في الصناعات والفنون. وقد نادى رواد النهضة بتأسيس مجامع لغوية، ووقف وراء ذلك سببان؛ الأول التهديد الذي باتت تلاقيه العربية في ديارها بفعل الاستعمار الغربي وسعيه لفرض لغته لتحل محلها، والثاني رغبة رواد النهضة في إنشاء مؤسسات ثقافية مشابهة للمؤسسات الغربية تعمل على النهوض بالمجال الثقافي، وكان فارس الشدياق في جريدته الجوائب من أوائل الداعين إلى إنشاء مجمع للغة العربية ، وعلى أثر هذه الدعوة تأسست بضع مجامع كالمجمع العلمي الشرقي في بيروت عام 1882 الذي لم يدم طويلا، كما أسس الشيخ توفيق البكري مجمعا آخر بالقاهرة، ثم أسست بضع مجامع بالقاهرة ودمشق وبيروت لكنها اختفت جميعا لحاجتها إلى دعم منتظم تقصر عنه قدرة الأفراد، ولهذا لم يكتب للمجامع البقاء إلا حين تعهدتها الحكومات بالرعاية، فنشأ أولا المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1919 وهو أقدم المجامع إذ يفوق عمره قرن من الزمان، ثم تلته مجامع أخرى في القاهرة وبيروت وبغداد.

الأستاذ كرد علي وتأسيس المجمع العلمي

لما انتهى الحكم العثماني في سوريا وتأسست أول حكومة عربية بها كان التعريب أول ما اهتمت به لأن اللغة التركية كانت هي السائدة في الإدارة والدواوين الحكومية منذ قرون، واحتاج الأمر جهودا مضنية لتعريب الدواوين ونشر الثقافة العربية بين المستخدمين، وفي هذا الإطار تم إنشاء المجمع العلمي برئاسة الأستاذ محمد كرد علي.

والأستاذ كرد علي دون سواه صاحب فكرة تأسيس المجمع، حيث سبق له أن زار بلدانا أوروبية في مطلع القرن الماضي، ووصف مجامعها العلمية بكثير من الإعجاب في كتابه (عجائب الغرب) ودعا إلى إنشاء مجامع مثلها في الشرق قائلا ” هل يُكتب لنا في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع، فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين، أم نظل كما نحن لا نعمل فرادى ولا مجتمعين”. 

وإن تتبع المرء مسيرة المجمع منذ تأسيسه حتى وفاة كرد علي (1953) فسيجد أنها ارتبطت بسيرة هذا الرجل ارتباطا وثيقا، فهو الذي اقترح إنشاءه، وقام بتأسيسه، واختار له اسمه وأعضاءه، ووضع نظامه وحدد أهدافه، وبذل جهده في سبيل أعماله، ولذلك كلما أطيح به من رئاسة المجمع تجمد نشاطه واضطرت السلطات إلى إعادته إلى موقعه مرة أخرى، وحول هذا يقول في مذكراته ” وقد لقيت الألاقي في سبيل هذا المجمع العلمي حتى كأنه بعض ملكي، وكان الأدرياء الحسدة يعرفون حرصي عليه فيضربونه ليضربوني، ويعبثون بمصلحته ليؤذوني.. وما رأيت بابا يوصلني إلى النهوض بالمجمع إلا طرقته، ولطالما بذلت ماء وجهي لأناس ما كنت أتنازل للسلام عليهم من قبل، حتى استهديت له المخطوطات والعاديات… وكان من أثر حرصي عليه الابتعاد به عن السياسة، فأصبح المعهد الوحيد في جميع أرض الانتداب يعمل حرا لا رقيب عليه، ولا مستشار يملي على من فيه إرادته، وكان الفرنسي في الشام سيدا في كل مكان إلا في المجمع العلمي، فإنه يزوره خاشعا متواضعا، حتى لقد قال المفوض السامي المسيو بونسو: إن الفرنسيين في سوريا يعلمون وفي سوريا يتعلمون”[1].

بلغ المجمع أوج ازدهاره خلال العقود الثلاثة الأولى من حياته بفضل تفاني رئيسه في العمل، وجهوده المضنية في انتخاب أفضل العناصر لعضويته بغض النظر عن الدين أو العرق أو الطائفة، حتى بلغ أعضاءه عام 1928 مائة وأربعة عشر عالما -77 من الشرقيين و36 من المستشرقين الغربيين-، ومن هؤلاء: عبد القادر المغربي، شكيب أرسلان، رشيد رضا، طاهر الجزائري، محمد الخضر حسين، أحمد لطفي السيد، أحمد شوقي، مصطفى الغلاييني، أنستاس الكرملي، فيليب حتى، ومن المستشرقين: مارجليوث، لويس ماسينيون، سنوك هورغورنيه، بروكلمان، سخاو وغيرهم[2]، وقد أفاد هؤلاء المجمع، وضمت مجلته كثيرا من الدراسات والبحوث التي كتبها هؤلاء الأعلام.

مهام المجمع

أشار البيان التأسيسي للمجمع أن مهامه تنحصر في الآتي:                                    

1-  النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها، وتعريب ما ينقص فيها من كتب العلوم والصناعات الأوروبية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب في موضوعات مختلفة وأساليب عصرية.

2-  جمع الآثار القديمة من تماثيل وأوان ونقود وما شاكل ذلك، لا سيما ما كان منها عربيا، وإنشاء متحف لها.

3-  جمع المخطوطات القديمة، والمطبوعات العربية والأجنبية الحديثة، وإنشاء مكتبة عامة للقراء.

4-  إصدار مجلة علمية للمجمع تُنشر فيها أعمال المجمع وأفكاره، وتكون واسطة بينه وبين المجامع العلمية في العالم، وقد صدر العدد الأول منها عام 1921 بعنوان (مجلة المجمع العلمي العربي)، وصدر منها حتى اليوم 93 مجلدا، ولم يطرأ عليها تغيير إلا ما يخص العنوان الذي تبدل إلى (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق) مع تذييله بعبارة مجلة المجمع العلمي العربي سابقا.

وهذه المهام تقلصت عام 1926 حين فُصلت دار الآثار عن المجمع بناء على اقتراح رئيسه، وصار المجمع جزءا من وزارة المعارف التي كان يتولاها الأستاذ كرد علي نفسه، وصرف المجمع جهوده منذ ذلك الحين نحو حفظ اللغة العربية وترقيتها، والبحث في تاريخ سوريا وتاريخ اللغة وعلوم التراث، لكن دائرة عمل المجمع كانت أوسع من ذلك لثلاثة أسباب:

أولاهما أن رئيسه تولى وزارة المعارف مرتين خلال هذه الحقبة، ولم يكن الفصل بين عمل الوزارة والمجمع ممكنا لأن القائم بأمرهما شخص واحد،

وثانيها خلو البلاد من المؤسسات العلمية والثقافية، فكان المجمع الجهة الرئيسة التي تتولى شؤون المعارف والثقافة والتعليم،

وثالثها، تفشي الأمية وعدم انتشار وسائل التثقيف من صحافة وإذاعة، مما اضطر المجمع أن يخصص حيزا من عمله للتثقيف العام.

دوره في النهضة الثقافية

لعب المجمع منذ تأسيسه دورا لا سبيل إلى إنكار أثره في الحياة الثقافية العربية عموما، ولا يمكن في هذه العجالة تناول هذا الدور لكن سنكتفي هنا بالإشارة المقتضبة إلى هذه الأدوار، وهي:

– التعريب ووضع المصطلحات، لعب المجمع منذ تأسيسه دورا كبيرا في عملية التعريب ووضع المقابل العربي للمصطلحات الأجنبية، فقد كانت باكورة أعماله إرساله إلى الدوائر الرسمية والمعاهد العلمية يطلب منها إخباره بما تحتاج إليه من الألفاظ وضعا وتعريبا فكانت تبعث إليه بقوائم اللغة التركية التي يراد استبدالها بالعربية وقوائم اللغة العربية المحرفة والمغلوطة، فيضع الألفاظ العربية المقابلة للتركية ويصوب الألفاظ العربية، وعلى صعيد كان للمجمع دور رائد في عملية وضع المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الفنية الأجنبية في: الطب والزراعة والهندسة وغيرها، وعادة ما كان يستعين في ذلك بطلب حضور اختصاصيين جلسات المجمع لشرح ماهية اللفظ بدقة في اللغة الأجنبية، وهكذا استطاع وضع المقابل العربي الدقيق مقابل اللفظ الأجنبي، ومنذ الأربعينات قام المجمع بإصدار عدد من المعاجم الفنية صدرت تباعا ومنها: معجم الألفاظ الزراعية (1943)، معجم المصطلحات الطبية (1956)، معجم المصطلحات العسكرية (1961).

–  خدمة اللغة العربية، لم يقصر المجمع جهوده على وضع المعاجم وإنما عني أيضا بضبط لغة الصحافة والكتابة والمحادثة، ونشر في مجلته سلسلة مقالات في عثرات الأقلام وعثرات اللسان، كما كان مرشدا للكتاب والصحفيين وانتقد كل ما يسيء إلى اللغة ويهوي بها ونشر في ذلك مقالات عديدة لم يصانع فيها أحدا من الكتاب، ومن جهوده أيضا وقوفه وراء إنشاء كلية الآداب بالجامعة السورية.

–  تحقيق المخطوطات ونشرها، لم يتمكن المجمع في بدء حياته من القيام بهذه المهمة على الوجه الأكمل لصغر ميزانيته التي وجهت نحو تأسيس المكتبة الظاهرية وشراء الكتب وإصدار المجلة، لذلك اقتصر عمله في هذه الناحية حتى عام 1944 على طبع رسائل تراثية مستلة من المجلة أو طبع كتب صغيرة، وبعد هذا التاريخ أخذ نشر المخطوطات يزداد شيئا فشيئا حيث اتجهت عنايته نحو جمع المخطوطات القديمة وأودع آلافا منها في دار الكتب الظاهرية، وصور نسخا من المخطوطات النادرة من المكتبات العالمية، وعهد إلى بعض أعضائه من العلماء بتحقيق طائفة من المخطوطات النادرة، ومنها: تاريخ دمشق لابن عساكر، تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، كتاب الأشربة لابن قتيبة، الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي، فضائل الشام ودمشق وغيرها كثير[3].

  التثقيف الاجتماعي، ساهم تأسيس المجمع في إثراء الحياة الثقافية في النصف الأول من القرن، إذ شرع أعضاءه منذ عام 1921 يلقون محاضرات عامة على الجمهور في قاعة المحاضرات بالمجمع، وكانت هذه المحاضرات تلقى مرة كل أسبوعين، ولما زاد الإقبال عليها صارت تلقى مرة أسبوعيا، وخصصت بعض المحاضرات للنساء فأقبلن عليها إقبالا كبيرا، وجمع المجمع بعض هذه المحاضرات ونشرها في ثلاث مجلدات، وبها موضوعات في: التاريخ والأدب والفلسفة والرحلات واللغة وغيرها، لكن هذه المحاضرات لم تدم طويلا إذ توقفت عام 1946، وقد كف المجمع عن هذا العمل بعد أن كثرت الأندية والجمعيات الأدبية في دمشق، وأصبحت قاعة المحاضرات بالجامعة تنهض بهذه المهمة – لم تكن الجامعة أنشئت حين تأسس المجمع- وعندئذ رأى المجمع أن يقصر جهوده على اللغة العربية وإحياء التراث.

– المكتبة الظاهرية ومتحف الآثار، كان المعهد وراء إنشاء عدد من المؤسسات الثقافية ولعل أهمها متحف الآثار الذي وقف المجمع وراء تأسيسه عام 1919 وأشرف عليه حتى استقل عنه، وإليه يرجع الفضل في مخاطبة الحكومات السورية المتعاقبة لأجل منع نشاط تهريب الآثار السورية الذي اعتادت بعثات التنقيب الأجنبية أن تقوم به، وأما عمله الآخر الجليل فكان إحياء المكتبة الظاهرية واتخاذها مقرا له، وتأسيس مكتبة تراثية معدة للجمهور بها، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى الشيخ طاهر الجزائري أحد أعضاءه الذي جمع لها الكتب والمخطوطات من مكتبات الأوقاف والزوايا، وتعهدها المجمع برعايته وأشرف عليها وجهزها بالكتب ووسائل الاطلاع الحديثة حتى صارت واحدة من أهم مكتبات المخطوطات في الشرق.

الخلاصة، أن المجمع العلمي العربي هو أقدم المجامع الحديثة في العالم العربي، وعبر قرن من الزمان استطاع معالجة قضايا وعلوم اللغة العربية، وبذل جهوده في سبيل وضع المقابل العربي للفظ الأجنبي مما جعل العربية تتسع للعلوم والفنون الحديثة، ونجح في تحقيق ونشر عدد من عيون التراث العربي المخطوط لا تقل جودة واتقانا عما حققه المستشرقون.


[1] رفعت هزيم، مجمع دمشق من المجمع العلمي العربي إلى مجمع اللغة العربية، دمشق: مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مج 93، ج1-2، نيسان 2020، ص 154.

[2] التقرير الخامس بأعمال المجمع العلمي العربي “في سنة 1928″، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، مج 9، ج1-2، كانون الثاني 1929، ص 9-11.

[3] مصطفى الشهابي، المجمع العلمي العربي بدمشق، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، مج 40، ج1، كانون الثاني 1965، ص 8-11.

[4] هيئة التحرير، نشاط المجامع، دمشق: مجلة المجمع العلمي العربي، مج 23، ج1، 1957، ص 73-76.