لما كان  تعدد الأديان واختلاف العقائد سنة إلهية أشار إليها الحق سبحانه وتعالى في محكم كتابه (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) فقد تمثل المسلمون تلك الحقيقة ووعوها تطبيقا في فتوحاتهم وتعاملاتهم وتنظيرا في مؤلفاتهم، حيث نشأت لديهم حركة فكرية، إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، يحدوها الرغبة في فهم أسس الديانات المختلفة وأصولها العقائدية وممارساتها التعبدية ومحاولة مقارنة بعضها ببعض أو مقارنتها بالإسلام، وهكذا ولد على أيديهم علم “الملل والنحلل” أو ما بات يعرف باسم “علم مقارنة الأديان” كما يقرر فرانز روزنتال، ويعده أحد الإنجازات الرفيعة للحضارة الإسلامية أسهمت من خلاله في تقدم الإنسانية الفكري.

شرع المسلمون في التدوين في العقائد والأديان منذ القرن الثالث الهجري تقريبًا، و ويذكر د. محمد الشرقاوي أن اهتمام المسلمين بالأديان وكقازنتها كان بتأثير مباشر من القرآن الكريم الذي يعد أول درس منهجي مفصل عن العقائد والأديان والملل والنحل وعرض لآرائهم وناقشها وبين أوجه الزلل فيها، وقد جاءت الكتابات الإسلامية متأثرة بالنهج القرآني، وبالأمكان أن نميز بين نوعين من المصنفات حول الأديان.

– مصنفات غير مباشرة، وتتمثل فيما كتب عن الأديان والعقائد في ثنايا كتب منوعة أخرى، ومن أمثلتها كتب التاريخ العامة كتاريخ اليعقوبي وابن الأثير حيث تطرقت إلى بعض الملل والنحل والعقائد، وكتب الجغرافيا مثل: الخطط المقريزية، والكتب الأدبية كالحيوان للجاحظ حيث تحدث عن الدهريين، وبعض الكتب الأخرى كتثبيت عقائد النبوة للقاضي عبد الجبار.

– مصنفات مباشرة، وهي المؤلفات التي خصصها كاتبوها لتناول الأديان والعقائد الأخرى، كالمصنفات المعنونة بالملل والنحل أو الديانات، أو التي تتناول ديانة بعينها أو قضية عقدية من قبيل (الرد الجميل لألهية عيسى بصريح الإنجيل) للإمام الغزالي.

ويختلف المؤرخون حول من أول من صنف من المفكرين المسلمين في هذا العلم، فعلى حين يذهب العالم الفرنسي دي لابولاي أن ابن حزم الأندلسي قد نال شرف السبق، واعتبره رائدا لمقارنة الأديان في الفكر الإنساني كله، نجد آدم متز يعتبر النوبختي الشيعي -من أهل القرن الثالث وأوائل الرابع- صاحب كتاب (الآراء والديانات) أول من ألف في هذا العلم، ووافقه أحمد شلبي على هذا الرأي، أما دافيد توماس فيرجح أن أبي عيسى الوراق هو رائد التصنيف في هذا العلم.

ورغم اختلاف هذه الآراء إلا أنها تكاد تجمع على أن التصنيف المنهجي في الأديان قد بدأ في القرن الثالث الهجري على يد بعض المفكرين كأبي عيسى الوراق والنوبتخي، ثم توالت المصنفات وبلغت أوجها نضجا واكتمالا في القرنين التاليين، وفيما يلي نقدم خريطة بأهم المصنفات الإسلامية في الأديان موزعة على القرون.

خريطة المصنفات في العقائد والديانات

– القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي شهد نشأة علم الأديان على يد المؤسسين الأوائل، ومن أهم من صنف فيه أبي عيسى الوراق (ت: 274ه) بالعراق، خلف وراءه مجموعة من الأعمال حول الديانات، منها (الرد على المجوس، وكتاب الرد على اليهود، وكتاب الرد على النصارى الكبير والأوسط والأصغر وكتاب المقالات) لكن جل كتاباته لم تحفظ لنا، وإنما وصلنا كتابه “الرد على النصارى” من خلال اقتباسات يحيى بن عدي الفيلسوف المسيحي، تلميذ الفارابي، الذي كتب رداً على أبي عيسى اقتبس فيه كلامه ورد عليه[1]. وممن صنف فيه كذلك النوبتجي الشيعي وأهم مؤلفاته (الآراء والديانات) وقد وصفه النجاشي الأسود بأنه بأنّه كتاب كبير حسن يحتوي على علوم كثيرة.

– القرن الرابع الهجري، وقد ظهرت خلاله مجموعة مصنفات قيمة أبرزها، (المقالات في أصول الديانات) لأبي الحسن علي بن حسين المسعودي (ت: 346ه)، كما صنف أبو الحسن العامري (ت: 381ه) فيه كتابي (الإبانة عن علل الديانة) الذي يبحث في الأسس العقلية للدين، والذي قارن فيه بين الإسلام وسائر الأديان في الأركان الاعتقادية، والعبادية، والمعاملية، وكتابه (الإعلام بمناقب الإسلام) والذي أوضح فيه فضائل الإسلام على غيره من العقائد والديانات. وبهذين الكتابين يكون العامري قد مهد السبيل أمام المصنفين في العقائد والأديان، إذ اعتبر كتابه الأخير أساسا لعدد كبير من الدراسات اللاحقة.

– القرن الخامس الهجري، وهو القرن الذي شهد التنظير لعلم مقارنة الأديان، ويشهد بذلك ظهور كتاب (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم الأندلسي المتوفى (456ه) وهو يعد من أفضل ما كتب في هذا المجال ويكفي ترشيح ابن خلدون الكتاب لكل من أراد أن يعلم شيئا عن الفرق، فالكتاب كما يبدو من عنوانه يبحث في موضوعين: الأول يتطرق فيه ابن حزم إلى الملل أي الأديان ناقدًا ومؤرخًا، والثاني يتحدث عن النحل أو الفرق الدينية الإسلامية، وقد استرعت انتقادات ابن حزم العميقة لليهودية والمسيحية واستخدامه أسلوبا لاذعا انتباه المستشرقين فرحوا يرمونه بالتعصب وأن كتابه كان عبارة عن كتب متفرقة جمعت لاحقا يعوزها الترتيب والدقة، وهو الزعم الذي أرجعه إبراهيم الحاردلو إلى أن بعض فصوله عنونت بلفظ كتاب: مثل كتاب الإمامة وغيرها، وذهب إلى أنه يفضح جهلهم بلغة العرب وطرقهم في الكتابة والتعبير[2]، وإلى جوار ابن حزم صنف جماعة آخرون مثل، أبو الريحان البيروني صاحب كتاب (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) وهو أوسع وأدق كتاب عن الديانات الشرقية في الهند وبخاصة المجوسية، والإسفراييني صاحب كتاب (التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الهالكين) والباقلاني صاحب (المقدمات في أصول الديانات) والبغدادي في كتابه (الفرق بين الفِرق).

– القرن السادس الهجري، وفيه كتب الشهرستاني (ت: 548ه) واحدا من أهم مصنفات الحضارة الإسلامية في علم مقارنة الأديان وهو كتاب (الملل والنحل)، ويبدو أنه اختار عنوانا قريبا من عنوان ابن حزم اعترافا بفضله في هذا المجال وتقدمه عليه، ورغم ذلك فقد اختلف منهجه اختلافا كبيرا عن منهج ابن حزم، إذ بينما رام الأخير إلى إظهار ما وقع من تحريف في الأديان السابقة على الإسلام فإن الشهرستاني تاق إلى تقديم تعريف موضوعي موجز بأهم الديانات دون الاعتناء ببيان بطلان معتقداتها، فهو يفتتح كتابه بالقول “لما وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل أردت أن أجمع ذلك في مختصر مفيد يحتوي جميع ما تدين به المتدينون وانتحله المنتحلون[3]“.

– القرن السابع الهجري، وكتب خلاله الرازي (ت: 606ه) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، وحجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان، والإمام شهاب الدين القرافي (ت: 684ه) الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الكافرة، والكتاب كما يستشف من عنوانه يفند شبهات المسيحيين واليهود ضد الإسلام.

– القرن الثامن الهجري، وفيه صنف جماعة من كبار الفقهاء عن الأديان والفرق ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728ه) الذي كتب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وله أيضا مناظرات لأهل الأديان متفرقة جمعها عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، ومنهم كذلك ابن القيم (ت:751ه) الذي وضع كتابه (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) للرد على تساؤلات اليهود والنصارى بشأن العقيدة الإسلامية.

– القرن التاسع الهجري، وقد ظهرت خلاله طائفة من المصنفات منها كتاب (المنية والأمل في شرح الملل والنحل) للمرتضى (ت: 840ه) وشرح خلاله كتاب الشهرستاني، ومنها كتاب (تلخيص البيان في ذكر فرق أهل الأديان) لعلي عبد الله الفخري من أهل القرن التاسع، وكان يظن أنه مفقود حتى عثر على نسخة منه بمعهد الاستشراق السوفيتي وترجمت إلى الروسية، ثم قام رشيد الخيون بتحقيق النسخة المخطوطة ونشرها عام 2011.

استنتاجات

ومن هذا العرض المكثف لتطور التصنيف في الملل والعقائد والنحل والذي قصرناه على القرون الستة التي تمثل ذروة الحضارة الإسلامية، يمكن أن نستنتج الحقائق التالية:

– أن التصنيف في الديانات قد بلغ أوج نضجه وتطوره في القرنين الخامس والسادس على يد ابن حزم والشهرستاني.

– أن عملية التصنيف لم تقتصر على الديانات السماوية، وإنما شملت أيضا الديانات الأخرى كما فعل البيروني حين درس العقائد الهندوسية المختلفة.

-أن مناهج التصنيف قد تنوعت وتفاوتت تفاوتا كبيرا، فبعضها قد اقتصر على ديانة بعينها، وبعضها على انفتح على مجموع الديانات التي سمع عنها، وبعضها الآخر قارن بينها وبين العقيدة الإسلامية، وكذا تفاوتت مناهج النظر والتناول فينما التزم الفقهاء بالمنهج النقدي في دراسة الأديان الأخرى كابن حزم والقرافي وابن تيمية وابن القيم آثر بعض المصنفين من ذوي الخلفية الفكرية المنهج الموضوعي الوصفي وعلى رأسهم الشهرستاني والبيروني، كما التزم بعضهم المنهج المقارن ومنهم العامري.

– لم يتوقف التصنيف في الأديان في القرون التالية واستمر حتى يومنا هذا ومن المتأخرين الذين كتبوا في ذلك صديق خان القنوجي (ت: 1357ه) صاحب (خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان)، و محمد أبو زهرة (ت: 1394ه) وله كتابان: (محاضرات في النصرانية) و(مقارنات الأديان) وأحمد شلبي (ت: 1421ه) الذي كتب (مقارنة الأديان) في أربعة أجزاء، ومحمد الشرقاوي (في مقارنة الأديان) .


[1]  عبد الرحمن ن. الطوسي، جهود أبو عيسى الوراق في علم مقارنة الأديان : كتاب “المقالات” نموذجاً، مجلة الدراسات الدينية، ديسمبر 2014، ع1، ص 29.

[2] إبراهيم أحمد الحاردلو، أخطاء المستشرقين حول كتاب الملل والنحل، الخرطوم: كلية الآداب، 1972، مجلة آداب، ع1، ص 82-84.

[3] حاجي خليفة، كشف الظنون، ج2، ص 1821.