لقد كانت المفاخرات الشعرية، والمبارزات البيانية صورة بارزة واضحة لهذا السمو البياني، في اللسان العربي، فبلغوا من اللغة مبلغا عظيما، أصابوا بها الشوارد والأوابد، وأبانوا بها عن كل سانحة وبارحة؛ حتى إذا أخذت لغتهم زخرفها وازيَّنت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها؛ نزل القرآن ببيانه المعجز الآسر الذي طوّح بقواهم البيانية، وانحنت نواصيهم أمام ناصية بيانه، وجرهم من ألسنتهم وزمام البيان، إلى محاريب الإيمان!

وعندما نتحدث عن الإعجاز الذي انماز به البيان القرآني على غيره من بيان البشر، وارتقى في أسلوبه وصوره البيانية على سائر البيان؛ فإن أدل شواهد الإعجاز على ذلك هي الموازنة بين صور المعاني، إذ كيف عبر الشعراء في بيانهم البشري عن معنى من المعاني، وكيف ورد تعبير القرآن عن المعنى نفسه؛ لنقف على سر التميز؛ و نستبصر آفاق العروج البياني في التعبير عن الصور والمعاني.

وإنه ليسحرك البيان العالي في قوته وبراعة نظمه وسبكه؛ وينماز عن غيره ببراعته وقوة تأثيره وعمله في النفوس.

وها نحن نقف أمام موازنة دقيقة لصور المعاني في ضروب الشعر وكيف ورد المعنى نفسه في القرآن؛ لنستبصر علو كعب البيان القرآني وأنه خارج عن حول الطاقة البشرية، وإليك أيها القارئ المتذوق دلائل نتلمسها على هذا البرهان.

ولا أجد أرقى في البيان البشري من الشعر الجاهلي السابق لتنزل القرآن، دليلا على مانقول، وإليك البيان.

يقول تأبط شرًا:

ويومٍ كيومِ العيكَتَيْنِ وعَطْفَةٍ

عطفتُ وقد مسَّ القلوبَ الحناجرُ

ضع هذا بجوار السبيكة البيانية مما ورد في القرآن ( وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ )

فأمامنا صورتان لمعنى واحد في مقام واحد، وهو مقام الخوف الشديد في القتال (مسَّ القلوبَ الحناجرُ) و ( وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ )

وتأمل فوارق التعبير والصورة بين البيانين؛ لتقف بنفسك وتحلق بفكرك في معارج البيان القرآني، وعلو كعبه على البيان البشري.

ذلك أن قول الشاعر: (مسَّ) استعمل فعل المس وهو دون ( بلغ) في الدلالة؛ على شدة الخوف والفزع؛ لأن (بلغ) فيه دلالة على بلوغ المنتهى في الفعل والقصد، وهو كذلك إذ بلغت القلوب أقصى ارتفاعها فزعا ووجلا وتحركت من مكانها، اضطرابا ووجيبا وحركة، حتى انتهت إلى الحناجر في ارتفاعها، وهو ما لا نجده في قول الشاعر من دلالة المس في هذا المقام، ثم إن الشاعر قلب الصورة الحركية، إذ جعل الحناجر هي التي تنكمش باتجاه القلوب، فجعلها فاعل المس، والقلوب ثابتة في مكانها لاتتحرك، فضعفت الصورة الحركية هنا، عما هي في البيان القرآني، الذي جعل القلوب هي المتحركة بخفقانها واضطرابها حال شدة الفزع والخوف، وهذا أنسب؛ لأنها مكان المشاعر والخوف، وهو مايجده الإنسان على وجه الحقيقة عند شدة الفزع من اضطراب قلبه، وشدة خفقانه، وانتفاخه؛ حتى يعسر عليه التنفس والكلام، وهو مالايكون في الصورة المقلوبة لدى الشاعر من انكماش الحناجر حتى تمس القلوب، وهي صورة تناسب حال شدة الظمأ منها إلى تصوير الفزع!

 

فظهر لنا علو كعب البيان القرآني ودقة إحكامه في الصورة الموافقة لمقتضى الحال، وذاك لعمري ماليس في طاقة البشر من قدرات البيان!