شهد المجتمع الإسلامي منذ تأسيسه إقبالا من النساء على تلقي العلم الشرعي وانخراطا في عملية إنتاج المعرفة وهو ما يتبين من كتب التراجم التي غصت بذكر أولئك النسوة، وفي الأزمنة الحديثة ظهرت بعض الباحثات هن امتدادا لأولئك المجتهدات الأوائل كعائشة عبد الرحمن التي حازت قصب السبق بدراساتها حول التفسير البياني للقرآني وتبعتها أخريات من تخصصات وأقطار مختلفة، وفي الأسطر التالية نعرض لإسهام الباحثة التونسية هند شلبي في التأريخ للدراسات القرآنية في الشمال الإفريقي.

قبسات من السيرة الذاتية

تنتمي هند شلبي لأسرة زيتونية فوالدها الشيخ أحمد شلبي أحد مدرسي الزيتونة في منتصف القرن، حفظت القرآن الكريم في سن مبكر على يد الشيخ محمد الدلاعي برواية قالون عن نافع، ونالت حظا من التعليم المدني الحديث قبيل التحاقها بجامعة الزيتونة في مرحلة ما بعد الاستقلال ودرست على يد الأشياخ محمد الفاضل بن عاشور وعلي الشابي ومحمد الحبيب بن خوجه حتى حصلت على الإجازة في أصول الدين عام  1968، وواصلت دراستها حتى نالت درجة الدكتوراة الثالثة من كلية أصول الدين عام 1981 وتعينت بالجامعة كأستاذ لعلوم القرآن إلى أن تقاعدت.

عاصرت في شبابها فترة حكم الرئيس بورقيبة الذي عرف عنه ميله إلى تجفيف منابع الثقافة الإسلامية واقتباس القوانين والنظم الغربية، وقد حدث في عام 1975 أن اختيرت بمناسبة السنة الدولية للمرأة أن تتحدث كمحاضر في ندوة عن مكانة المرأة في الإسلام بحضور الرئيس بورقيبة -الذي كان يفاخر بالتجربة التونسية في مجال حقوق المرأة ويعدها استثناء بين الدول العربية-، وبدلا من أن تكيل المديح للرئيس انتقدت السياسات المتعلقة بالمرأة التي تضاد الشرع كحظر تعدد الزوجات وأبت مصافحة الرئيس في ختام كلمتها كما تقضي التقاليد المتبعة.

تعرضت هند شلبي للمضايقات حين صدر منشور 108 الذي يقضي بمنع النساء من ارتداء الزي الشرعي باعتبار أنه يحمل دلالات سياسية فأكرهت بذلك على خلع الخمار لكنها استعاضت عنه بارتداء السفساري (الزي التقليدي التونسي) وهو زي فضفاض يحقق الستر المطلوب، وظلت تمارس عملها، اضطرت منذ مطلع التسعينيات إلى الاحتجاب القسري لأسباب غير معلومة حتى أنها لم تجز نشر بحوثها المخطوطة التي كان يتم تداولها بين طلاب العلم[1].

التأريخ للدرس القرآني

أصدرت هند شلبي خمس مؤلفات تراوحت بين التأليف والتحقيق في الفترة ما بين (1979-1990) وأول مؤلفاتها هو تحقيق كتاب “التصاريف: تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه” ليحيى بن سلام، الصادر عام 1979 أي قبيل أن تنجز رسالتها للدكتوراه، والكتاب كما ذكرت محققته يعد من الكتابات الأولى في الأشباه والنظائر وهو ” أقدم تفسير تناول القرآن كاملا بالشرح، إذ هو من القرن الثاني للهجرة، ويعتبر تفسيرا بالمنقول في عمومه”[2]. وكان التحقيق على قدر التفسير فقد جاء في قرابة تسعون صفحة شرحت خلالها ماهية علم الوجوه والنظائر، وتوسعت في ذلك لاختصار المحققون فيه، ثم تتبعت حركة التأليف والكتابة فيه منذ القرن الثاني وحتى العاشر الهجري وذلك بالترجمة لجميع من كتب فيه وذكرت مؤلفاتهم في ذلك.

أما عملها الثاني فهو “القراءات بأفريقية منذ الفتح إلى منتصف القرن الخامس” والكتاب في أصله رسالتها للدكتوراه التي أرخت فيها لإسهام بلدها تونس في علم القراءات في القرون الخمس الأولى، وهي تعلل توجهها لدراسة هذا الموضوع رغم مشقته وندرة مصادره إلى أن “الناظر في ميدان القرآن وعلومه بأفريقية يلاحظ أن الدراسات المتعلقة بالتأريخ تكاد تكون منعدمة إلا من دراسات جزئية تتناول الحديث عن شخصية بارزة أو تأليف مرموق.. من أجل ذلك رأينا من باب الواجب لا من باب النفل أن نطرق باب الحديث عن القرآن وعلومه بأفريقية من لدن الفتح الإسلامي رغم الصعوبات”[3].

ويعد تحقيقها لكتاب “تفسير يحيى بن سلام” أشهر مؤلفاتها العلمية وليس هذا بغريب فهو يشكل حلقة وصل بين تفسير الطبري وبين التفاسير السابقة عليه كتفسير مجاهد وبنشر هذا التفسير الذي عثرت على بعض أجزاء منه تكون هند شلبي قد سدت الثغرة في تاريخ التفسير خلال هذه القرون الأولى، أما آخر تحقيقاتها فهو “عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل” لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي وهو في تفصيل قواعد رسم المصحف.

وبالإضافة إلى هذه المؤلفات ذات الطابع التاريخي فإن لها كتابا آخر حظي بشهرة واسعة وهو “التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق” وعلى كثرة البحوث والدراسات في التفسير العلمي فإن هذا الكتاب يعد من أجود الدراسات – على وجازته – في هذا الموضوع إذ حرصت فيه على بيان آراء العلماء ومواقفهم وحججهم من هذا التفسير والاحتكام إلى القرآن الكريم وعلومه في التعامل مع التفسير العلمي من خلال دراسة تطبيقية لبعض مسائله.

وبصفة عامة تتسم مؤلفاتها بعدد من الخصائص المميزة، ومن أهمها:

– اندراج جل مؤلفاتها ضمن مشروع معرفي محدد ألا وهو التأريخ للدرس القرآني في شمال أفريقيا ويروم إلى درء الفجوات والثغرات في تاريخ المعرفة القرآنية، فنحن إزاء باحثة لديها مشروع ولا تتملكها الرغبة في الكتابة لمجرد النشر، فجاءت مؤلفاتها بمثابة حلقات متصلة تدور في فلك هذا المشروع.

– التحقيق في كتاباتها يتجاوز مجرد مقارنة نسخ المخطوط وترجمة للشخصيات والتعريف بما غمض من ألفاظ  إلى مناقشة القضايا المعرفية وعلى سبيل المثال ناقشت في مقدمتها لكتاب التصاريف قضية الوجوه والنظائر أو علاقة الألفاظ بالمعاني، وفي تفسير يحيى بن سلام درست قضية نشأة التفسير وتطوره وعلاقة التفاسير الأولى بعضها ببعض.

– الإفادة من الإنتاج المعرفي الغربي حول القرآن، إذ لا تخلو مؤلفاتها من قائمة بالمصادر الأجنبية وهي مصادر فرنسية بالأساس، وربما يكون توجهها لدراسة هذه الحقبة المبكرة بوحي منها حيث تعنى بوجه خاص بالمراحل الأولى لتشكل العلوم الإسلامية.

– النزاهة العلمية والدقة؛ فهي إذا حررت مسألة وتبنت قولا وذكرت أدلته ووثقتها كرت على أدلتها في نزاهة علمية نادرة تبين وجوه الضعف فيها وتورد الاحتمالات مفسحة المجال لها ولغيرها لمزيد البحث في هذه المسألة[4].

واستنادا إلى ذلك تحظى مؤلفاتها بتقدير المختصين في الدراسات القرآنية حتى وصفت بأنها “خير ما كتب حول الدراسات القرآنية في القرون الإسلامية الأولى بإفريقية” حسب الأستاذ بلحاج شريفي.


[1]  انظر ما ذكره  الباحث فهد الرومي من أنها أرسلت إليه بحثا كتبته بخط يدها بعنوان “التركيب والدوام في الإعجاز القرآني”  على الرابط التالي: https://vb.tafsir.net/tafsir15938/#.WcvsUdFx3IU

[2] يحيى بن سلام بن ثعلبة (ت 200هـ)، التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه، قدمت له وحققته هند شلبي، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، ص 63.

[3] هند شلبي، القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس، بيروت: الدار العربية للكتاب، 1979، ص 13-14.

[4] راجع: https://vb.tafsir.net/tafsir15938/#.WcvsUdFx3IU