إن الدعوة لنهضة الأمة الإسلامية تكنولوجياً، وحتى يكون لديها ما يعرف بـ”التكنولوجيا الإسلامية”، إنما هو استمرار طبيعي لموقف القرآن الكريم المفتوح من معطيات العلم في آفاقة الرحبة. لقد منح القرآن الكريم الأمة مفتاحين للخلاص، كلما حزب بها أمر، وضيقت عليها حركة التاريخ الخناق.. ووجدت نفسها مدفوعة إلى الدخول في منطقة العتمة والظل..

وأول هذين المفتاحين: “التغير الذاتي” وثانيهما: “الإعداد الذاتي”، ودونهما من المستحيل تبدأ حركة الأمة الإسلامية للتنطلق وتتقدم بخطى ثابتة قس أن تكون خير الأمم أو تخذ موقعها في الصف الأول.

لقد وجدت الأمة في كلا المفتاحين مساحة واسعة تحتلها مسألة إعادة تشكيل عقول أبنائها كشرط أساسي للتحقق بـ”التغيير الذاتي” و”الإعداد الذاتي” على السواء.

المفتاح الأول: “التغير الذاتي”

لقد طرح القرآن الكريم وسيلتين لتحقيق ذلك.. الوسيلة الأولى: وهي إيجابية لـ”التغير الذاتي”في قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}(الرعد: 11).. وطرح والوسيلة الثانية: سلبية في قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}(الأنفال: 53).

وهو تغيير يمتد إلى كل المساحات دون استثناء، وإلى سائر المكنونات الأساسية: “العقل ..والروح.. والجسد”، وكل العلاقات والبنى الداخلية بين أفراد المجتمع الإسلامي مع ذات المؤمن ومع الآخرين، والتي تمكن الأمة الإسلامية برمتها من مواجهة حركة التاريخ.

عندما أكد الدستور القرآني على قانون” التغيير” إنما يعني أن يمنح الأمة الإسلامية فرصتها في صياغة مصيرها، في التشبث به أو استعادته كلما فلت من بين يديها..وعندما تتهيأ أرادة الأمة للعمل عن طريق الشحذ النفسي، والإعداد الروحي والعقلي والأخلاقي والجسدي ستكون قادرة على مواجة كل التحديات التي تواجهها ، وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح ابنائها؛ وهكذا يعود المسلم لينتصر على التحديات، وليستعيد قدرته الأبدية على التجدد والتطور والإبداع.

الحق أقول: ليس هناك أمل للنجاح لأي فرد أراد أن يسير في طريق”التغيير الذاتي” برؤية تجزيئية أو موقف نصفي!!

للأسف الشديد اليوم يفهم كثير من أفراد الأمة الإسلامية عملية “التغيير الذاتي” فهماً خاطئاً، فهم يتصورونها مجرد تجديد لوثبة روحية، أو إعادة إلتزام بحشد من القيم الخلقية، أو السلوكية التي دعى إليها القرآن الكريم.. وسيقع  باقي أفراد الأمة في الخطأ نفسه لو قالوا:إن الحل يكمن “فقط” في إعادة تشكيل العقل المسلم.

الحق نقول: إن “التغيير الذاتي” الذي يقصده القرآن الكريم..هو عملية جامعة شاملة تغطي كل الطاقات البشرية: عقلية وروحية، وأخلاقية وسلوكية وجسدية..وأي تجزيء في الرؤية، أو الموقف يقتل المحاولة في المهد..ولكي تسطيع الأمة الإسلامية إعادة تشكيل عقول ابنائها لابد أن تعتمد ضرورة منهجية توضع في الاعتبار،دوما، سلماً للأولويات، فتبدأ بالأهم فالمهم فالأقل أهمية.

المفتاح الثاني:” الإعداد الذاتي”:

إذا كان “التغيير” ينصب على ذات المسلم في إطارها الفردي بالدرجة الأولى ثم ينسحب على باقي الأمة الإسلامية ومن ثم يمكن لها في الأرض.. فإن عملية “الإعداد” تنصب على الأمة الإسلامية بالدرجة الأولى لكي يحمي – من ثم – ذات المسلم من الحصار والتضييق في العالم..والقرآن الكريم يقولها صراحة، وبالتغيير نفسه:{ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال:60).

ولن يتحقق الإعداد المطلوب إن لم تحشد كل طاقات المسلم، ويعاد تشكيل عقله، كما أراد له الدستور القرأني أن يكون، ليتمكن من أداء دوره في هذه المهمة الكبيرة، والوصول بالأمة الإسلامية إلى شاطئ اليقين والأمن المحفوظ بسياج القوة التي ترهب الأعداء، وتمكن لها في الأرض.

الحق أقول: إن العلم الحديث ليس شيطاناً مريداً لعنه الله لكي نتبرأ منه وندعو لحربه، ولكنه أداة حيادية يمكن أن توظف لخدمة الإسلام والمسلمين وتعزيز عقيدة ابناء الأمة..كما أن العلم الحديث ليس أبن الحضارة الغربية وحدها، لكي نتردد في احتضانه وتنشئته..ولكنه وليد تمخض أبدي متراكم من الخبرة الإنسانية..وحضارات شتى ساهمت فيها معظم شعوب الأرض الحية..وكان للحضارة الإسلامية نصيب وافر في وضع دعائمه، وتصحيح مناهجه،وطرح الكثير من معطياته.

لقد امتدت معطيات القرآن الكريم لكي تشمل أطراف العلم جميعاً، فتعالجها وتنير لها الطريق، وتبرمج لمناهجها، وتقدم طرفا من كشوفها ونتائجها:الفلسفة”أو الأهداف”، والمنهج والحقائق، والتطبيقات.

إننا نجد العديد من المبادئ الأساسية للحياة الإسلامية مثل الاستخلاف والتسخير والتوازن والارتباط المحتوم بين بين آية الخلق ووجود الخالق..لا يمكن تنفيذها وتعزيزها، وتعميق معطياتها في العالم دون اعتماد العلم أداة لتحقيق هذه الأهداف كأسلوب أو برنامج عمل لخدمة التصور الإسلامي؛ الذي يقوم على هذه الأسس.

لقد طرح القرآن الكريم ولأول مرة منهجاً حسياً تجريبياً للنشاط المعرفي، هو نفسه الذي يعتمده العلم الحديث..كما طرح القرآن الكريم حشداً من الحقائق والكشوف العلمية في ميادين شتى، وخاصة الفلك والطبيعة والجغرافي والطب والنفس..إلخ..ثم جاءت معطيات العلم الحديث لتؤكدها وتزيدها إيضاحاً..مصداقاً لقوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)، وقوله تعالى: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (يونس:39).

أما التطبيقات “التقنية” التي تتمخض في نهاية الأمر عن منهج العلم وحقائقه النظرية الصرفة..فإن للقرآن الكريم كلمته فيها هي الأخرى..قد يتساءل البعض ما علاقة كتاب الله “بالتكنولوجيا” وهي نتاج يتميز بالجدة والحداثة لمعطيات العلم في شوط متأخر من مسيرته الطويلة؟!

ولكن دهشتهم تزول إذا ما علموا أن القرآن الكريم قالها صراحة وفي أكثر من موضع، بل تواترت في القرآن الكريم حتى بلغت مرتبة اليقين، يقول الله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ . يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ: 10- 13).

وفي مقطع آخر نقرأ تأكيداً واستكمالاً للموقف يقول الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ . وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (ص: 17-20).

ثم تعود الآيات لتتحدث عن سليمان عليه السلام مرة أخرى، فيقول الله تعالى:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(ص:35-39).

إننا هنا نلتقي باثنين من عباد الله المصطفين الأخيار،داود وسليمان عليهما السلام، وقد سخرت لهما قوى الطبيعة الهائلة والطاقات الغيبية التي لا يحدها جدار الزمان أو حاجز المكان، سخرت جميعاً لكي تعمل تحت إمرة الإنسان المؤمن المسئول:الجياد ، الطير، الحديد،الريح، القطر”النفط”..في عدد مشار إليه من مساحات العمل “التقني” التطبيقي:صناعة وعمراناً وبناءً وفنوناً..وتثير كل من له عقل يفكر ويتدبر في ميدان هذا النشاط تلك الإشارات الواضحة إلى الحديد والوقود،اللذين قد تبين في القرن العشرين، كم هما ضروريان أساسيان للحضارة المعاصرة، ولكل حضارة تريد أن تعمر وتصنع وتبني وتتفنن وتطبق..كذلك يدهشنا الله سبحانه وتعالى بأنه لم يمنح الحديد فحسب لداود عليه السلام، ولكن يعلمه كيف يلينه، فدون هذا لن تكون هناك ثمة فائدة “صناعية” لهذا الخام الخطير.

لقد التقينا هنا ليس بالإنسان المؤمن فقط، بل بالنبي الذي بلغ فهمه عن الله وشكره لنعمائه أن يمنحه ربه وخالقه هذا القدر الكبير من القوة المذخورة، ويكشف له عن هذه الطاقات الطبيعية الهائلة من أجل أن يبني ويعمر ويتفنن ويبدع ويبتكر ويتقدم بالحياة صعداً، على طريق خلافة الله في الأرض ، تلك الخلافة المسؤولة المؤمنة الراشدة، التي لا ينحرف بها هذا النعيم الكبير عن التزام الموقع الصحيح في العلاقة المطلوبة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى.

لقد أعطانا القرآن الكريم مفاتيح التكنولوجيا..فإن لم ندخل بها إلى هذا المجال الرحب المتفسح، فنبني مختبراتنا التكنولوجية، ونشغلها بعقولنا، ونصنع سلاحنا، ونستخدمه بأيدينا..فلن نستطيع أن نصنع حضارة ، ولن يكون لنا مكان في خارطة هذا العالم..حتى لو جلسنا ألف عام متواكلين في حلقات الذكر والتعبد.


المراجع:

حسن الترابي: تجديد الفكر الإسلامي.

عبد الحميد أحمد أبو سليمان: أزمة العقل المسلم.

عدنان محمد أمامة: التجديد في الفكر الإسلامي

عماد الدين خليل: أصول تشكيل العقل المسلم.