مما جاء عن التابعي الحسن البصري رحمه الله، قال: إنما الدنيا ثلاثة أيام، مضى أمسٌ بما فيه، وغداً لعلك لا تدركه، فانظر ما أنت عامل في يومك.

الأيام الدنيوية إذن ثلاثة، ماض وحاضر ومستقبل، أو الأمس واليوم والغد، بحكم القوانين والسنن الكونية، والحركة المستمرة للكون والأفلاك والأجرام فيه، ولأن الزمن يتغير، تتغير معه الأشياء، والأفكار، والمفاهيم، لا شيء يخلد ويبقى سوى ذكر الله.

الأمس الذي كنت تعايشه بكل لحظاته، فات وفرط وأصبح ماضياً لا يمكنه أبداً أن يرجع، ولا يمكنك بالمثل إعادته، فإن كنت أحسنت فيه واستثمرت لحظاته، فلا شك أنت المستفيد، وإن أسأت وأضعت أوقاته، فأنت المتضرر الأول كذلك، ولا أحد غيرك، هذه حقيقة كلنا يدركها وإن حاولنا تجاهلها أحياناً.

الأمس لن يفيدك الحزن عليه وعلى ما راح وولى وضاع خلاله.. ومثلما لن يفيدك البكاء على أمسك، فإنه كذلك لن يفيدك انتظار غدك أو المستقبل، القريب منه والبعيد، وأعني بالانتظار ها هنا أن تحمل همه وتشغل حواسك وفكرك ومن حولك من الناس والأشياء، بالقلق والتوتر وحمل همومه، بعيداً عن التخطيط الواعي والمحمود له، والمدرك لحقائق الحياة في نفس الوقت، فلعلك لا تدركه كما قال البصري، وربما الذي أنت قلق بشأنه وتحمل همه وتنغص على نفسك وغيرك يومك وحاضرك، لن يقع بالشكل الذي تتخيله أو كما صورته بذهنك، وقد لا يقع أي شيء من ذلك بتاتاً.. فلا تهدر وقتك سدى وأنت تنتظر غدك بأوهام وخيالات وتواكل على هذا وذاك وتلك، بل اعقلها وتوكل على الله.

الأهم من الأمس والغد، أن تعيش لحظتك ويومك بعقل حاضر واع، حاضرك هو الفعل الجاري الذي تعيشه بتفاصيله، ويمكنك في الوقت ذاته السيطرة عليه بعض الشيء أو التفاعل والتعامل الفوري معه لحين من الدهر لا يطول وقبل أن يدخل عالم الأمس وعالم الماضي. في حاضرك، عندك من الوقت الكثير لتعيشه بكل لحظاته، تستثمره وتستمتع به وتعيش حياتك كما أمرك ربك، ولكن في الوقت ذاته توقع كل جديد وكل مفاجئ.

مقدمة تمهيدية طويلة نوعاً ما، لكنها ضرورية لفهم كيفيات التعامل مع وقائع الحياة المتنوعة، ومنها المفاجآت، موضوع حديثنا اليوم، السارة منها والصادمة، إنك بفهمك لطبيعة أيام الدنيا الثلاثة، الأمس والغد والحاضر، يمكنك وضع أي حالة أو حادثة مفاجئة في خانتها المناسبة، تتعامل معها بشكل معين يتوافق مع طبيعة الحالة المفاجئة، بحيث لا يكون هناك إفراط ولا تفريط معها، لا في الأفعال ولا المشاعر.

نماذج من المفاجآت

إن اكتشفت فجأة أنك مصاب بمرض ما، عافانا الله وإياكم من الأمراض والعلل وشفى مرضانا ومرضاكم، فلا تبتئس كثيراً ولا ترفع صوتك من الأنين – كما يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله – فإنك لست أول من يمرض، ولن تكون آخرهم كذلك، ولا يجب الدخول في عالم من اليأس والقنوط، بل تعامل معه على أنه اختبار من الله، أو فترة تطهيرية من الذنوب تقام لك في الدنيا، أو رسالة تذكيرية منه سبحانه على أهمية العافية والصحة، وضرورة عدم التفريط بها أو التعامل غير السوي مع الأبدان، التي خلقها الله لتؤدي عملها على أتم وجه.

إن تفاجأت ذات يوم بدخول ولد لك عالم العقوق عبر موقف ما، أو ابنة تبغي وضع قدم لها في عالم الانفلات، أو نشوزاً مفاجئاً من زوجة أو زوج، فلا يجب بادئ ذي بدء أن تسود غمامة فورية من الحزن عليك وعلى البيت كله، باعتبار أن البيوت لا تخلو من تلك المفاجآت، ولكن كلما كان التعامل هادئاً سوياً مع تلك المفاجآت، مع طلب المعونة والهداية من الله، قصرت مدة فاعليتها، وبدأت في الزوال والاختفاء التدريجي، والعكس صحيح.

إن صدمتك أخبار مفاجئة في مال لك تفيد بخسارتك في تجارة أو بورصة أو معاملة مالية ما، فلا تنزعج كثيراً رغم صعوبة الأمر، باعتبار أن النفس البشرية تحب المال حباً جماً. لكن مع ذلك، فإن الحكمة تقتضي في مثل تلكم الحالات، عدم إطالة مدة الانزعاج والضيق والحزن، ولا أقول بعدمها مطلقاً. ولكن بما أنها نزلت ووقعت وصارت محنة، فربما تكون داخلها منحة لن تشعر بها سريعاً، أو ربما كما أسلفنا، رسالة إلهية تستوجب منك إعادة النظر على ما أنت عليه في تعاملك مع المال، الذي هو مال الله أولاً وأخيراً، فقد يريد الله من تلك المفاجأة اختبار صبرك في أمر عزيز عليك وما أنت فاعله، المهم إذن هو حُسن إدارة تلك المفاجأة، فلست أول من يخسر ماله، ولن تكون آخر الخاسرين، ولكل جواد كبوة.

إن تفاجأت يوماً أن عدداً من أصدقائك قد بدا على معاملتهم لك بعض التغيير ولأي سبب كان، وبدأ بالتالي الواحد منهم تلو الآخر في الاختفاء التدريجي، وصولاً إلى تبريد الصداقة أو إنهائها، فلا تبتئس ها هنا أيضاً، ولا تحاول هدم ما كان بينك وبينهم سريعاً، حتى إن هم ساروا وابتعدوا، ولا تحاول كذلك الانتقاص منهم أو القيام بأفعال وسلوكيات تجاههم من تلك التي قد يعتقد أحدنا وهو في تلك الحالة المفاجئة، أنها فرصة للرد على ما بدر منهم تجاهك، الأمر طبيعي لا يستوجب ذلك الانتقام، أو الدخول في حالات من الكآبة والحزن والضيق، فالحياة ما زالت مليئة بالبشر، ومثلما تعرفت على كثيرين طوال حياتك، وقد استمر منهم من استمر، واختفى من اختفى، فالحكمة تقتضي ها هنا إذن، وفق تلك السُنّة الحياتية، التأقلم معها أولاً ومن ثم أن تتذكر دوماً بأن حياتك ستستمر، سواء بأصدقاء وزملاء حولك أو بدون أحد، والأهم من ذلك، أنك آتيه سبحانه يوم القيامة فرداً، أي لن يكون معك صاحب ولا صديق ولا عزيز، أنت وعملك الصالح، وهل هناك أعز من العمل الصالح يومئذ؟.

إن تفاجأت في مثال أخير، بتغير الحالة السياسية أو الاجتماعية أو غيرها في البلد الذي تعيش فيه، ووجدت صباحاً من يحكمها مثلاً ليس على هوى أهلها، أو فاجأتك سياسات اقتصادية أو مظاهر اجتماعية غريبة أو غيرها، فلا يجب أن تجزع وتفزع، بل المطلوب أن تتمالك وتترابط وتتجاسر مع آخرين لمواجهة الحالة، وبحث كيفية التعامل معها بحكمة ودراية، فإن كانت الأمور ميسرة للتغيير، فلا يجب النكوص عن المساهمة، وإن كان الوضع غير ذلك، فلا أقل إذن أن تنتظر وتتحين الفرصة المواتية للمشاركة في التغيير، وفق سنّة التدافع والصراع المستمر بين الخير والشر.

خلاصة الحديث

الحياة ما هي سوى وقائع وأحداث، قد تكون بعضها عادية وأخرى مفاجئة صادمة، وقد يتكرر الكثير منها وبنفس السيناريوهات أيضاً، والعاقل من اتعظ بالأمس، ورسم وخطط للغـد، دون أن يؤثر ذلك سلباً على معايشة حاضره لحظة بلحظة، على رغم أن هناك مدرسة تنادي اليوم بقبول الواقع بخيره وشره، وقوة تأثير هذه المدرسة على واقعنا المعاش، لكن هذا مخالف لطبيعة الإنسان وطبيعة الحياة وقوانينها، التي لا تعرف معنى للسكون، بل الحركة المستمرة، إلى ما شاء الله لها أن تكون.


ليس قبول الواقع في حياتنا هو الحل الأمثل لكثير من الأمور. نعم، ربما هذا الواقع يكون مفيداً والقبول به إيجابياً في بعض الأحيان، ولكن في أحايين كثيرة ليس شرطاً أن يكون كذلك، وبالتالي نجد أهمية التعامل الجاد معه لتغييره نحو الأفضل، سواء على المستوى الفردي أم العائلي أم المجتمعي، ولكن بحكمة وفهم وتأن.. وهذا المطلوب كذلك أن يكون مع المفاجآت الحياتية المتنوعة المستمرة، وما أكثرها.. والله دوماً وأبداً، كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.