التعرفُ على “السنن الإلهية” ووضعُها موضع الاعتبار والتطبيق، مطلب قرآني لم يأخذ حظه الواجب له، ولم تتراكم فيه الجهود التي حاولت التأصيل له والتفريع عليه والانطلاق منه، مثل كتابات ابن خلدون ومالك بن نبي؛ حتى بدت جهودهما وجهود غيرهما في هذا المضمار كأنها خارجة عن السياق!

في هذا الحوار مع المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث نرصد حضورَ أو غياب “السنن الإلهية” في الفكر الإسلامي المعاصر، وأثرَ ذلك على عرقلة مسيرته وإصابتها بالتجزيئية والخرافية والتنافرية.. ونتساءل عن كيفية استعادة الوعي بالسنن الإلهية، وعن أبرز الجهود التي تمت في هذا الصدد، مثل ابن خلدون وبن نبي، وجهود ضيفنا الكريم أيضًا..

ود. الطيب برغوث مفكر له اهتمام أصيل ومبدع بالفكر الحضاري، لاسيما “منظور السننية الشاملة” الذي يرى أنه هو الخريطة السننية الكلية الضرورية لأية نهضة حضارية إنسانية متوازنة، تتحرك على خط الفعالية والتكاملية والخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة.. ومن أهم كتبه: الدعوة الإسلامية والمعادلة الاجتماعية. التغيير الإسلامي خصائصه وضوابطه. محورية البعد الثقافي في استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي. المنهج النبوي في حماية الدعوة ومنجزاتها. مدخل إلى الصيرورة الاستخلافية: دراسة في سنن التغيير الاجتماعي. الفعالية الحضارية والثقافة السننية. الواقعية الإسلامية في خط الفعالية الحضارية. السُّنَنية الشاملة: روح الحياة، ونظام الوجود، ومرتكز النهضة الحضارية. إشكالية المنهج في استثمار السنة النبوية. الأسرة المسلمة على طريق النهضة الحضارية.

السنن الإلهية.. كيف ترون حضورها في الفكر الإسلامي المعاصر؟

علينا أن نوضح ما هي السنن الإلهية ابتداءً؟ فنقول: هي القوانين أو النظم المودعة في المفردات الكونية لكي تؤدي كل مفردة منها وظيفتها الوجودية الذاتية والخارجية، وتحقق الغرض منها. فالموجودات الكونية والحياتية والإنسانية كلها منظومة بسنن مطردة، لأن الله خلق كل شيء فقدَّره تقديرًا دقيقًا منتظمًا محكمًا هادفًا.

والفكر الإنساني كله، ومنه الفكر الإسلامي طبعًا، يتحرك باستمرار نحو اكتشاف هذه السنن الإلهية، أو هكذا ينبغي له أن يكون، وإتاحتها للاستثمار في إدارة الحياة؛ لأنّ بدون الوعي بسنن فهم الحياة وإدارتها بشكل صحيح، تضطرب حياة الإنسان وتتصادم مع سنن فطرته وسنن الطبيعة والكون المحيطة به، ويتسبب له ذلك في متاعب ومحن كثيرة، تسلب من حياته الكثير من معاني روحيتها وأخلاقيتها وإنسانيتها وخيريتها وبركتها ورحمتها العامة.

فالحركة الفكرية هي التي يكتشف من خلالها الإنسان هذه السنن، فإذا لم يكن الفكر منظمًا وممنهجًا ومؤطرًا بروح سننية منضبطة، فإنه سيغرق في التجزيئية والخرافية والتنافرية، ولا يستطيع اكتشاف هذه السنن والانتفاع الصحيح بها.

وفكرنا الإسلامي في أساسه، نشأ على أرضية سننية مرجعية محكمة وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولذلك تجد فيه الكثير من المنطق أو الروح السننية المتوازنة، قبل أن تؤثر عليه بعض الثقافات الخرافية والوثنية وتبعثر اهتماماته، وتجزّئها تجزئة تنافرية، وتبتعد به قليلاً أو كثيرًا عن روح القرآن السننية التكاملية المتوازنة، حسب العصور.

فبحكم المنطق أو الروح السننية التكاملية السارية في القرآن الكريم وفي السنة النبوية عامة، يظل الفكر المرتبط به أو المنبثق عنه، مشدودًا إلى هذه الروح السننية التكاملية المتوازنة؛ بينما يعاني الفكر المعزول عن حقيقة القرآن والسنة ومقاصدهما وضوابط العلاقة بهما، من كثير من السيولة والميوعة والهامشية والتنافرية، حتى وإن سُمي إسلاميًّا. فصفة الإسلامية في الفكر ترتبط بمدى عمق صلته بجوهر المصدر المرجعي لهذا الفكر، وقوة التزامه به منهجيًّا ومعرفيًّا ومقاصديًّا، وبمدى قدرتها على تحقيق التجديدية المستمرة في هذا الفكر.

فالفكر الإسلامي تتعمق سننيته وإسلاميته وإنسانيته وفعاليته وخيريته وبركته ورحمته الكونية العامة، بقدر ما تنشدّ أو ترتبط حركته الاجتهادية إلى مرجعيته الكونية الأم، وهي الوحي كتابًا وسنة، وتنضبط بثوابتها وقيمها ومقاصدها، وبالمنهج العلمي المتوازن الذي ينبثق عنها. وهو منهج المعرفية السننية التربوية أو الوظيفية، لأن المعرفة في الإسلام ليست مقصودة لذاتها إنما هي وسيلة للعمل الأكثر فعالية وخيرية وبركة ورحمة عامة.

فكرنا تتعمق سننيته بقدر ما ترتبط حركته الاجتهادية بالكتاب والسنة

هل غياب السنن الإلهية أو عدم حضورها بالشكل الكافي، أثّر سلبًا على هذه المسيرة؟

كما سبق أن أوضحت، فإن صفة السننية هي التي تمنح الفكر الإسلامي صفته الإسلامية المطلوبة، إذ بقدر ما يتطابق أو يقترب أو ينسجم هذا الفكر مع سنن الله تعالى ولا يناقضها، أو يصادم بعضها ببعض، بقدر ما تزداد صفة الإسلامية والأصالة فيه، وبقدر ما يكتسب المزيد من الحجية والسلطة المعرفية المرجعية المنشودة. وبقدر ما يصادم هذا الفكر سنن الله تعالى في خلقه، بالخرافة أو بالجهل أو بالتجزيئية والمنافرة بين السنن، بقدر ما يفقد من صفة الإسلامية والأصالة فيه، ويبتعد عنها، ويوغل في السيولة والميوعة والتيه والسلبية والتنافرية المنهكة.

فالحركة الفكرية الإسلامية كحركة واسعة تشارك في التأثير عليها وفي صناعتها، كتل بشرية مسلمة ضخمة تعد بمئات الملايين من البشر، وتمتد على ساحات وبيئات جغرافية وثقافية واسعة، وعلى فترات تاريخية طويلة، وتتدافع فيها عوامل وظروف ثقافية واجتماعية وسياسية داخلية وخارجية شتى، لذلك تراها تتميز بمد وجزر مستمرين، في قربها وبعدها من مصدر إلهامها ومركز جاذبيتها الأم، وهو القرآن والسنة والخبرة السننية المنبثقة عنهما.

وما ألاحظه هو أن الفكر الإسلامي، وبالرغم من حضور الروح السننية في مصدريه الأصليين، وانبثاثها في الساحات المعرفية والثقافية الإسلامية المختلفة بأشكال متفاوتة، إلا أن هذه السننية لم تشكل خطًّا أو محورًا مركزيًّا بارزًا تدور حوله كل مناشط وفعاليات الحركة الفكرية والثقافية الإسلامية عبر الأجيال، مما جعل هذه النزعة أو الروح السننية الأصيلة مجزَّأة ومبعثرة بشكل يكاد يخفي أهميتها وقيمتها ودورها في الفكر والحياة معا.

فالروح السننية كان يجب أن تشكل مركز التفكير والمنهج والإنتاج المعرفي، في الفكر والثقافة الإسلاميين، وهو ما لم يحدث بالشكل المطلوب حتى الآن، فنحن لم نتمكن لحد الآن من بلورة نظريات كبرى في فلسفة التاريخ والحضارة أو فقه النهضة الحضارية عامة، التي ينبغي بل يجب أن تدور حولها الحركة الفكرية والمعرفية والثقافية برمتها، وهو ما جعل هذه الأخيرة تتميز بالكثير من التجزيئية والتنافرية واللاتكاملية، وتؤثر سلبًا في كثير من الأحيان على الحركة السلوكية للأفراد، والحركة الاجتماعية والسياسية والحضارية للمجتمع.

وحتى بعض المحاولات التنظيرية الاستثنائية الهامة التي تحركت في إطار الرؤية السننية الكلية للحركة الحضارية الإنسانية، قديمًا وحديثًا، لم تجد لها صدى في ظل هذه التجزيئية والبعثرة الفكرية والمنهجية الكبيرة الطاغية، كما وصف ذلك مالك بن نبي في الموقف من المنجز المعرفي الاستثنائي لابن خلدون في عصره وما بعده، حينما لاحظ بأن “تراث ابن خلدون ظل حروفًا ميتة في المجتمع الإسلامي حتى نهاية القرن التاسع عشر” حسب تعبيره، بل إن محاولته التنظيرية الهامة هو نفسه، أي مالك بن نبي، وقع لها في حينها ما وقع لابن خلدون، ولم تلتفت إليها غالب نخب العالم الإسلامي، بل عتم عليها بعضهم وناهضها بعضهم، وهي ما تزال معزولة تقريبًا!

والذي يقرأ التفاسير وشروح الحديث ومدونات الفقه والأخلاق والتصوف والأدب والسياسة والتربية والمعرفة الكلامية والفلسفية على سبيل المثال.. يعثر على بذور لثروة سننية جزئية كبيرة جدًّا، ولكنه لا يعثر على رؤية سننية كلية متكاملة، تؤطر هذه الحركة والثروة الفكرية السننية الجزئية معرفيًّا ووظيفيًّا، وتعين على الاستفادة القصوى منها في إدارة حياة الأفراد والمؤسسات والدول والمجتمعات على مستوى الأمة! في الوقت الذي تشكل فيه الرؤى والمنظورات السننية الكلية أهمية قصوى في الحياة.

إن الإنسان وهو يدرس هذه العلوم المختلفة، ويتوغل في تفاصيل اهتماماتها الخاصة المتشعبة، ويتلقى إيحاءاتها ومؤثراتها المعرفية والتربوية، يشعر بنوع من العزلة والمركزية في الوقت نفسه، إذا كان مختصًّا في ذلك العلم أو قريبًا من غيره، كما يشعر غير المتخصص ببعض التشتت والانفصال بين هذه العلوم، أو بالجاذبية والاستقطابية التنافرية إلى هذا العلم أو ذاك على حساب غيرهما! في الوقت الذي وجدت فيه هذه العلوم أصلاً لتمنحه مجتمعة، التكامل والتوازن والفعالية المعرفية والنفسية والسلوكية في حياته، وحركته الاجتماعية، وعلاقاته الإنسانية والبيئية والكونية عامة.

فالفكر الإسلامي بل والإنساني عامة، لا تنقصهما السننية الجزئية الوظيفية، فهي في تدفق تراكمي مستمر، بل تنقصهما المنظورات السننية التكاملية الشاملة التي يتحرك في إطارها هذا التدفق التراكمي المطرد للمعرفة والخبرة السننية الجزئية. والسننية الجزئية عندما تنفصل عن مؤطراتها ومداراتها السننية المرجعية الكلية، تتجزأ وتتنافر وتتشرذم، وتهتلك فعاليتها التسخيرية أو الوظيفية في حياة الأفراد وحركة المجتمعات، وفي علاقاتهما الإنسانية والكونية عامة.

وكيف يمكن استعادة الوعي بالسنن الإلهية؟

نقطة البداية الصحيحة في الطريق إلى إشاعة الروح السننية العامة في الفكر الإسلامي وترسيخها، وجعلها لازمة أساسية له، كما أسلفت، هي أن تجتهد بعض نخبنا الفكرية في بناء المنظورات السننية الكلية التي تتحرك في إطاهرها مسيرة السننية الوظيفية الجزئية الضخمة المتدفقة بكل عنفوان واطراد. ففكرنا الإسلامي والفكر الإنساني عامة من حولنا، زاخران جدًّا بالسننية الوظيفية الجزئية، لأن الإنسان عبر الساحات البشرية المختلفة، يكتشف كل يوم سننًا وقوانين ونظريات وظيفية جزئية جديدة، وهناك تراكم ضخم في السننية الوظيفية الجزئية، ولكن ما ينقصنا كإنسانية وليس كمسلمين فحسب، هو المنظورات الكونية السننية الكلية التي تؤطر هذه الحركة السننية الجزئية الضخمة، وتحقق تكامليتها المعرفية والوظيفية في حياة الإنسان، وتقيها من مخاطر التجزيئية التنافرية المنهكة التي هي عليها الآن، بل وفي كثير من فترات التاريخ الإنساني، ولذلك كانت تأتي الرسالات السماوية من حين لآخر لكي تعيد بناء هذه المنظورات السننية الكونية الكلية وتأسيس الوعي بها مجددًا، وتترك للمصلحين في كل البيئات والأزمنة مهمة تعميق الوعي بها، وتمكين الأجيال من إدارة حياتهم الذاتية والثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية عامة، على ضوء مقاصدها ومقتضياتها ومعطياتها.

وهذا ما يؤكد عليه حديث الدورات التجديدية المستمرة، الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: “إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها”. فحصر التجديد في الدين هنا، وفي حديث: “اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري”، ينبه إلى مركزية المنظورات السننية الكونية الكبرى في حركة التجديد الحضاري، لأن الدين وهو الإسلام، كما نعتقد نحن المسلمين، هو الذي يتكفل ببناء الخرائط الهيكلية لهذه المنظورات الكونية الكبرى؛ وليس هناك منظورات سننية كونية كبرى حقيقية مطابقة لحقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، خارج المعرفة الدينية الصحيحة.

إذا منحنا هذه الساحة ما تستحقه من الاهتمام والجدية، وتمكنا من بناء منظورات سننية كونية كلية متوازنة، وعممنا الوعي بها، وأصبحت مؤثرة في إنتاجنا الفكري والمعرفي عامة، وفي ثقافتنا، فإن الفكر الإسلامي سيعمق سننيته، ويعمق تأثيره على حياتنا وأدائنا السلوكي والاجتماعي والسياسي والحضاري عامة.

الرؤى والمنظورات السننية الكلية تشكل أهمية قصوى في الحياة

ما أبرز الجهود التي تمت في هذا الصدد؟

كما أسلفت فإن جهود بناء المعرفة والثقافة السننية الجزئية مستمرة على الساحتين المعرفية الإسلامية والإنسانية معًا على مر العصور، وهناك منجزات ضخمة وخاصة في الساحتين الكونيتين المتصلتين بسنن الله في الآفاق أي عالم المادة، وسننه في الأنفس أي عالم إدارة الأفراد والدول والمجتمعات والأمم والحضارات، وسننه سبحانه في الهداية أي الوحي، وهذا ما نراه ونعيشه ونستمتع ببعض بركاته في حياتنا الخاصة والعامة، ويشارك في هذه المنجزات بشر من شتى الشرائع والثقافات والبيئات؛ ولكن مع ذلك فإن هذه المنجزات السننية الجزئية الضخمة، أفرزت وتفرز مشكلات بل ومعضلات كبرى وخطيرة على الأمن الفكري والنفسي والروحي والاجتماعي والحضاري والبيئي، بل والمصيري للإنسان، وهي في تفاقم؛ إذ كلما ازداد تحكم الإنسان في سنن الآفاق والأنفس خاصة- بل حتى في بعض سنن الهداية أحيانًا- ازدادت احتمالات الخطر عليه وعلى بيئته الطبيعية والكونية، وعلى مصيره الأخروي! لأن ذلك يمنحه قوة غير عادية، تؤدي به إلى الغرور والغطرسة والفرعنة والفساد والظلم، كما هو مشاهد ومعيش فعلاً!

ولذلك فإن المشكلة لا تكمن في اكتشاف السنن الجزئية للإدارة المباشرة للحياة فقط، لأن ذلك ميسور، ولكنها تكمن أيضًا وبشكل ملح، في كيفية استثمار هذه السنن بطريقة صحيحة ونافعة وقليلة الإضرار بالإنسان والطبيعة والكون عامة؛ وهو ما يضعنا أمام أسئلة كبيرة في حاجة إلى جهد إنساني كبير للإجابة عنها، ومنها على سبيل المثال: لماذا تزداد مخاطر الإنسان على نفسه وعلى الدولة والمجتمع والطبيعة، كلما ازداد تحكمه في السنن الجزئية لمنظومتي سنن الله في الآفاق والأنفس؟ ما السر في ذلك؟ كيف يمكن تدارك هذا الخلل والخطر؟ وهذا ما أشار إليه القرآن في مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} (العلق: 6، 7)، ما الذي تحتاج إليه الحياة الإنسانية لكي تتوازن وتقل أضرارها، وتعظم خيرتها وبركتها ورحمتها العامة؟

ولا شك أن المزيد من المعرفة السننية الشاملة والمتوازنة والمتكاملة، هو الذي يمكِّن الإنسان من التغلب على هذه العقبة أو المعضلة، وخاصة إذا امتدت هذه المعرفة إلى الساحات والمنظومات الأساسية الأخرى التي تتوزع فيها سنن الله تعالى في الحياة، وهي ساحات ومنظومات سنن الهداية والتأييد، لما فيهما من سنن حياتية غير موجودة في منظومتي سنن الآفاق والأنفس اللتين يتمحور حولهما الهم والاهتمام البشري في الغالب، غافلاً عن معطيات منظومتي سنن الهداية والـتأييد، وهو ما يحدث هذه الاختلالات الخطيرة في حياة الإنسان وعلاقاته الإنسانية والكونية، وقبل ذلك في علاقته بالله تعالى.

غياب الوعي بالسنن يُغرق الإنسان في التجزيئية والخرافية والتنافرية

وكما أسلفت فإن جذر هذه المشكلات أو المعضلات يكمن في المنظورات الكونية التي تتبناها النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية المؤثرة في الحياة الإنسانية، وهي كثيرًا ما تكون منظورات جزئية وظيفية، تعاني من التنافرية الذاتية والاجتماعية، التي تفرض على الأجيال، وتشرط تفكيرهم وتطبعه بالمزيد من التجزيئية والتنافرية المنهكة. وما لم تتسع آفاق هذه النخب إلى المنظورات السننية الكونية الأكثر شمولية وتكاملية وتوازنًا، وانسجاًما مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، فستظل الحياة الإنسانية تعاني من تبعات ومخاطر المنظورات الجزئية المتنافرة المنهكة.

كان ابن خلدون علامة فارقة في الفكر الحضاري.. كيف ترون جهوده في تأسيس “الوعي السُّنَني”؟

جهد ابن خلدون كما ذكرتم، كان منعطفًا مهمًّا في المعرفة والثقافة السننية التي تحركت على محور بناء المنظورات السننية الكلية، وقد جاء في وقته، وخاصة بعد أن اتسع نطاق المعرفة والثقافة الفقهية واستبحر كثيرًا، وتعمقت الدراسات في المعرفة الأصولية التي يفترض أنها جاءت لتضبط سير الحركة الفقهية، وتمنحها فعاليتها الوظيفية المطلوبة، كما اتسع نطاق الحركة الروحية أو الصوفية وانفتح على الذوقية الذاتية السائلة، واستفحلت الصراعات السياسية ولم تتمكن من تطوير منهج للتداول السلس على إدارة الشأن العام، وتعاظمت التحديات الخارجية وتطلبت مواجهة فعالة وشاملة ومتكاملة ومستمرة.. فكان لا بد من مثل هذا الفقه الحضاري السنني ليواجه معضلات العمران الحضاري وتحدياته، ويستثمر كل المنجزات المعرفية والثقافية السابقة وغيرها في الساحة الإسلامية والإنسانية عامة، ليطور ويجدد نفسه، ويطرح عليها الأسئلة والتحديات الحقيقية التي يجب أن تشتغل عليها هذه العلوم والمعارف وتجابهها، حتى تزداد فعاليتها الوظيفية من جهة، وحتى تطور وتجدد وتصحح نفسها من جهة أخرى.

 إن الساحة المعرفية التي اهتدى إليها ابن خلدون رحمه الله، ساحة محورية في المعرفة والحياة الإنسانية معًا، فهي مصب كل المعارف الإنسانية التي ما وجدت إلا لخدمة العمران الحضاري إقامة وحماية وتجديدًا واستثمارًا في القيام بالخلافة في الأرض، وتحضير الحياة الأخروية للإنسان.

لم يتطور ما دشنه ابن خلدون من وعي حضاري سنني شامل!

ومع الأسف فإن الوعي الحضاري السنني الشامل الذي دشن ابن خلدون لبناته العلمية القوية، وأوجد به مصبًّا لكل روافد المعرفة والثقافة والخبرة الإنسانية، لم يتطور في الساحة المعرفية والثقافية والحضارية الإسلامية، وغطت عليه الثقافات الفروعية السابقة عليه، وطوت صفحته، ولم يكتب له الظهور إلا في ظل المعرفة والثقافة والتجربة الحضارية الغربية المعاصرة، التي أعطته روحها وصبغتها المنظورية الجزئية لله والكون والحياة والإنسان، وعززت به فعاليتها في إدارة الإنسان والدولة والمجتمع، بعد أن جردته من أقوى شروط وعوامل نجاحه، بعزله عن معطيات منظومتين سننيتين كونيتين خطيرتين، وهما منظومتا سنن الله في الهداية والتأييد؛ فأصبح ساحة معرفية وثقافية معززة للقوة والنفوذ المتحرك في اتجاه الغرور والغطرسة والفساد والطغيان والظلم كما أسلفنا.

وحتى عندما تلقفته بعض النخب في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، واهتمت به، فإنها لم ترجع به إلى ساحته الأصلية الأصيلة، بل أخذته وتعاملت معه كما جاءها مستوردًا من مطحنة الحداثة المعاصرة؛ فأصبح يساريًّا واشتراكًّيا وليبراليًّا وعقلانيًّا وعلمانيًّا.. ولم نستفد منه شيئًا حتى الآن!

وما الحلقة التي أضافها مالك بن نبي؟

مالك بن نبي من القلة النخبوية في العالم الإسلامي التي أفلتت من هذه العلاقة غير السوية بالمنجز الفكري الخلدون المتميز، سواء النخبة المستلبة تراثيًّا، أو المستلبة حداثيًّا؛ فقد تمكن رحمه الله بجهده الذاتي، من الانفتاح مبكرًا على المنجز المعرفي المنهجي الخلدوني المتميز، وقرأه جيدًا في ضوء مرجعيته الإسلامية أولاً، ثم في ضوء المنجزات المعرفية والمنهجية الكبيرة للثقافة والخبرة الحضارية المعاصرة ثانيًا، وخاصة منها التي اهتمت بفلسفة أو فقه التاريخ والحضارة، وتحركت على النهج الخلدوني؛ واستطاع أن ينفذ إلى عمق الخبرتين، وحاول صياغة رؤية متوازنة وسَّعت من دائرة التحليل والتفسير للظواهر الحياتية، ونقلتها من الدائرة السياسية أو الاجتماعية الضيقة المباشرة، إلى الدائرة الحضارية الأوسع والأكثر تأثيرًا في غيرها من الدوائر الحياتية الجزئية الكثيرة، واعتبر بأن المشكلة الإنسانية هي باستمرار مشكلة حضارية، ورأى بأن كل مجتمع لا يرتقي بمستوى فكره ووعيه وطموحه وأدواته المنهجية إلى مستوى التفكير الحضاري وفقه الحركة الحضارية، لا يفهم جيدًا عمق مشكلته وأولوياته، ومن ثم لا يستطيع إيجاد الحلول الصحيحة لها، ولا يستطيع في النهاية أن يضع نفسه في الموضع والمكان والموقع المطلوب على خريطة المدافعة والمداولة الحضارية في عصره.

ولذلك فإن التنميات والإصلاحات والتغييرات والتجديدات.. التي لا توضع في سياق استراتيجية نهضة حضارية حقيقية، ولا تتوفر لها شروط النهضة الحضارية الحقيقية، وفي مقدمتها معرفة وتربية وثقافة النهضة الحضارية، ما هي إلا ترقيعات لا تندرج في مسار نهضة حضارية، كما يرى؛ لأن النهضة الحضارية في نظره هي إمساك بقوانين أو سنن النهضة وشروطها، وتحرك على ضوء مقاصدها ومقتضياتها ومعطياتها.

فالنهضة الحضارية عنده ليست تكديسًا للأفكار والأشياء والأشخاص، أو سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل هي حركة بنائية كلية متكاملة ومستمرة، يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى “قانونها” أي إلى سنة الله فيها، كما يقول صراحة.

ولا شك أن هذه نقلة مهمة جدًّا في التفكير لو تم الانتباه إليها، والتركيز عليها، والاستفادة منها، ولو على مستوى بناء الوعي؛ فما بالكم لو فعِّل ذلك الوعي وأخذ طريقه إلى تخطيط حركة النهضة الحضارية وإدارتها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. وهذه دون شك مسئولية الكثير من النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، المنشغلة عن أولوية فكر النهضة وتربيتها وثقافتها الحقيقية، بأولويات أظهرت السنين المتطاولة هامشية ولاجدوى الكثير منها، كما يؤكد ذلك واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بما لا يدع أي كلام لأي متكلم أو مبرر للضعف والتخلف ولافعالية الكثير من الاستراتيجيات والمنهجيات التي اعتمدت!

لو جئنا لاهتمامكم بالسنن الإلهية وما قدمتموه فيها من دراسات رائدة.. ما الذي تهتمون به أكثر في هذا المجال الرحيب؟

أنا تأثرت بمالك بن نبي مبكرًا جدًّا، عندما كنت في مرحلة التعليم الإعدادي، وعَبْره اكتشفت ابن خلدون مبكرًا، واكتشفت غوستاف لوبون وتوينبي والمدرسة الإصلاحية، وغيرهم من فلاسفة التاريخ والحضارة الذين كان يركز عليهم، ثم اكتشفت كوكبة من المثقفين المسلمين المتأثرين به، كعمار طالبي، وعبد الوهاب حمودة، وجودة سعيد، وعمر عبيد حسنة، وعماد الدين خليل وغيرهم كثير، ممن استفادوا منه وتأثروا به وبمنهجه في رصد الظواهر وتحليلها وتفسيرها واستشراف آفاقها. ومع مرور الوقت، وجدت نفسي متحركًا بشكل مبكر، في عمق المشروع الذي طرحه هذا الاتجاه المتميز في الفكر الإسلامي، وهو الاتجاه الحضاري السنني المتوازن، الذي يتأسس على كون النهضة الحضارية هي قدر كل مجتمع للمحافظة على أمنه ووجوده وتوازنه الحضاري، وأن هذه النهضة الحضارية المتوازنة، لا تتحقق لأي مجتمع إلا عبر معرفة وثقافة وتربية وحركة سننية شاملة ومتوازنة ومتكاملة ومستمرة، تشترك فيها نخب المجتمع وجماهيره جميعًا.

وقد اقتنعت تمامًا بهذه الخلاصة التي استخلصتها من علاقتي بهذا الاتجاه الحضاري في الفكر الإسلامي بل والإنساني، وركزت كل اهتمامي وجهدي للمساهمة في تعزيز هذا الاتجاه الحضاري، منذ نصف قرن، وقد أكرمني الله تعالى بتأليف عدد معتبر من الكتب يدور جلها حول الخلاصة التي انتهيت إليها، وأعتبرها زبدة للجهود التي تحركت في هذا الاتجاه في الساحتين الإسلامية والإنسانية عامة، وهي أن “منظور السننية الشاملة” هو الخريطة السننية الكلية الضرورية لأية نهضة حضارية إنسانية متوازنة، تتحرك على خط الفعالية والتكاملية والخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة.

من خلال مالك بن نبي اكتشفت كثيرًا من فلاسفة التاريخ والحضارة

فاهتمامي المحوري إذن يتركز حول محاولة بلورة معالم منظور السننية الشاملة، كرؤية كونية سننية كلية متكاملة، لفهم الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وتحديد العلاقات القائمة بين كل هذه الوجودات، وموقع الإنسان من ذلك كله، والدور المحوري المنوط به في الحياة الدنيوية، والسنن التي تحكم أداء هذا الدور وتؤثر عليه وعلى بقية مراحل الدورة الوجودية الكبرى للإنسان التالية لحياته الدنيوية.

وفي تصوري وفهمي لحقيقة الإسلام ورسالته في الحياة، أرى بأن الإسلام تتمحور رسالته حول بناء الوعي الإنساني بمنظور السننية الشاملة، القائم على أن الوجود الكوني والإنساني تحكمهما سنن مطردة، وأن هذه السنن موزعة على أربع منظومات سننية كونية كلية متكاملة، هي منظومات سنن الوعي الكوني الغائي الشامل، وسنن الوعي الاستخلافي الشامل، وسنن الوعي التسخيري الشامل، وسنن الوعي الوقائي الشامل؛ فإذا ما تمكن المسلمون من فهم حقيقة منظور السننية الشاملة، واستيعاب معالم خريطته الكبرى، يكونون قد فهموا فعلاً حقيقة الإسلام ورسالته في الحياة، ووفروا لأنفسهم الشروط الموضوعية للاستفادة من خيريته وبركته ورحمته العامة، وأرجو أن يكون لهم نصيبهم الوافر من الرحمة الكونية العامة التي وصف الله بها رسالة الإسلام في قوله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).

فالمشروع الذي أشتغل عليه، يدخل في عمق رسالة الإسلام في الحياة، ويسعى لوضعه في مكانه الحقيقي الذي وضعه الله فيه، كمنظومة سننية كونية كلية أساسية، ضمن خريطة المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع الكبرى التي وزع الله فيها سنن فهم الوجود وإدارة الحياة، واستشراف آفاقها الأخروية المنشودة.