يقوم الفكر الغربي على مركزية الحضارية الأوروبية، فمنها مبتدأ الفكر والفلسفة والحضارة، وإليها المنتهى في التقدم والنهضة.

وهذا الفكر يضرب الصفح عن حضارات أسبق وأقدم منها نفعت البشرية، مثل: الحضارة المصرية القديمة، “كان غاردنر يقول: (إن فلاسفة اليونان الأوائل مثل: طاليس، قد قبعوا كتلاميذ عند أقدام الكهنة المصريين).

وسبقه أفلاطون بالقول: (إن اليونانيين أطفال مقارنة بأصحاب الحضارة المصرية القديمة).

هذا فيما يخص التأثير الشرقي القريب كما تجلى في العراق القديم ومصر القديمة، وله ما يناظره في الهند والصين.

لقد غدت اقتباسات اليونان من الشرق (كثيرة العدد وثقيلة الوزن)؛ إذ تعجز المصادفة عن تفسير التقدم الذي أحرزته أيونيا على سائر المقاطعات اليونانية، إلا في كونها أكثر من غيرها اتصالاً بالشرق، ذلك أن أثينا لم تعرف النشاط العقلي العارم إلا في نهاية القرن الخامس وبداية الرابع قبل الميلاد.

وإذا نظر للموضوع من زاوية كلية؛ فالحضارة الإغريقية بأجمعها هي آخر الحضارات القديمة حول المتوسط، وقد سبقتها حضارات (أرسخ قدمًا، وأوفر ثروة، وأسبق فنًّا وتقنية)”([1]).

والحضارة الغربية الحديثة تعرفت على تراثها الإغريقي القديم من جديد من خلال العلماء المسلمين الذين شرحوا ونقدوا وأضافوا للفكر الإغريقي القديم.

وقد بنت نهضتها العلمية الحديثة على جهود العلماء المسلمين والعرب، ورغم ذلك كانت الحضارة الغربية الحديثة حضارة عاقة لم تعترف بالفضل للحضارة التي قامت عليها.

وقد لاحظت أن المركزية الحقيقية لم تكن للغرب ولا لغيره من الحضارات والمناطق، بل كانت لهذه المنطقة التي تضم مجموعة من البلدان العربية، وذلك من خلال استقرائي لبعض الأمور:

1- نزول كل الأديان السماوية في هذه المنطقة من العالم، فاليهودية والنصرانية والإسلام قد نزل الوحي بها في مصر والشام والحجاز، وانتشرت أنوارها في العالمين، وانضم تحت لوائها كثير من الخلق باختلاف ألسنتهم وألوانهم وأعراقهم، لكن يد العبث والتحريف قد طالت اليهودية والنصرانية، أما الإسلام فقد ضمن الله -تعالى- حفظ وحيه متمثلاً في القرآن الكريم، فلا يقدر أحد على تغييره بالزيادة أو النقصان، وسنّ -سبحانه- سنّة كونية بابتعاث المجددين الذين يجددون لأمة الإسلام أمر دينها([2]).

2- معظم الأنبياء المذكورين في القرآن عاشوا في هذه المنطقة، فرغم أن عدد الأنبياء كثير قد بلغوا الآلاف، وعدد المرسلين بالمئات([3])، فإن معظم المذكورين كانوا في هذه المنطقة، سواء كانوا من أنبياء بني إسرائيل كـ: يوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا وعيسى، أو من أنبياء العرب كـ: هود وصالح.

3- معظم الأماكن الواردة بالقرآن في هذه المنطقة، فالبلد الحرام وبكة ومكة وحنين ويثرب وإرم والأحقاف ومصر والأرض المقدسة والطور وسيناء ومدين، كل هذه الأماكن وغيرها واقعة في هذه المنطقة.

والأماكن المقدسة للديانات السماوية الثلاث في هذه المنطقة.

ولما أورد الله -تعالى- بعض الأماكن من خارجها لم يذكر لها اسمًا؛ ففي قصة ذي القرنين ذكر تجواله في الأرض شرقها وغربها ولم يسم أي منطقة من المناطق التي زارها، قال -تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا﴾ [الكهف: 86]، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف: 90]، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: 93-94].

4- معظم الأقوام المذكورين في القرآن من هذه المنطقة، فقوم عاد وثمود وآل فرعون وبنو إسرائيل والعرب كلهم من قاطني هذه المنطقة، فلم يذكر -سبحانه- مثلاً الهنود أو اليونانيين، وعندما ذكر الروم ذكر الموقعة التي انتصروا بها في هذه المنطقة، فقال -تعالى: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: 1-3].

5- الملاحم ستكون في هذه المنطقة، ستكون هذه المنطقة مكانًا للحروب العنيفة في آخر الزمان؛ فعن عوف بن مالك قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: “اعدد ستًّا بين يدي الساعة، موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا([4]).

والصراع مع يهود في آخر الزمان في هذه المنطقة ذكره -سبحانه- في سورة الإسراء فقال: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: 4-7].

فما سبق ذكره وغيره يدلل دلالة واضحة على أن هذه المنطقة لها خصوصية شديدة في الأديان وبين الشعوب والأمم، هذه الخصوصية جعلت لها مركزية حتى وإن كانت في مرحلة ضعف وانكسار.


([1]) د. عبد الله إبراهيم: المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات، ص(269).

([2]) أخرج أبو داود في “الملاحم”، باب: “ما يذكر في قرن المائة”، ح(4291) عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها“، وقد صححه الألباني في “صحيح سنن أبي داود”.

([3]) أخرج أحمد في “المسند”، ح(22342) في حديث طويل عن أبي أمامة قال: يا نبي الله، فأي الأنبياء كان أول؟ قال: “آدم -عليه السلام“. قال: قلت: يا نبي الله، أونبي كان آدم؟ قال: “نعم نبي مكلم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه روحه، ثم قال له: يا آدم قبلاً“. قال: قلت: يا رسول الله، كم وفّى عِدة الأنبياء؟ قال: “مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسه عشر جمًّا غفيرًا“، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “إسناده ضعيف جدًّا”.

([4]) أخرجه البخاري في “الجزية”، باب: “مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ…”، ح(3176).