هناك جملة من الظواهر تستدعي فضول الأسئلة!

1 ـ أخذت الموسيقى في طول التاريخ الإسلامي مسارين مختلفين:نظري فقهي وواقعي اجتماعي، تطور كل منهما في اتجاه عكسي عن الآخر، كلما شاع القول بالتحريم في مجالس العلم كثر تعاطي المجتمع للفن وانتشرت مجالس الطرب، لماذا حدث هذا الفصام؟

يظهر لي أن هناك سببين اثنين:

أ ـ إذا لم يكن النص حاسما كانت البيئة جذابة، وأصبح للعرف والعادة دورهما في توجيه الحكم أو تسفيهه ــ خصوصا في مجال الوجدانيات والاجتماعيات ـ، ولذلك انقسمت مواقف الفقهاء حيال الموسيقى إلى حجازيين متسمحين في السماع وعراقيين مشنعين على متعاطيه.

ب ـ الارتباط الكينوني بين الإنسان والموسيقى، وهو ارتباط محير من ناحية، ولكنه مفهوم من ناحية أخرى، إن الذي أودع العود قابلية التأثير هو من جعل في النفس قابلية التأثر، ويبدو أن الكون كله يستخفه الطرب،(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّير)، هو ارتباط قديم وجد قبل مزامير داود، وقد يكون الإنسان هبط به من السماء، وذلك ما قد يفسر استعصاءه على الفهم، قال ديورانت في قصة الحضارة:”بعدما أنفق الفن من عمره خمسين ألف سنة، ما يزال الناس يتنازعون على تحديد مصادره من غريزة الإنسان، ومبادئه في عصور التاريخ”.

المدينة ومكة مهد الموسيقى العربية

2 ـ من المعروف أن أئمة هذا الفن (الغناء) في بداية العصر الإسلامي كانوا أربعة، مكيان ومدنيان، فأما المكيان فابن سريح وابن محرز وأما المدنيان فمعبد ومالك الطائي، وأن مجتمع المدينة العام كان يتعاطى أو يتفهم أو ينكر برفق على المغنين والمعجبين، وهي ظاهرة تستدعي التوقف، فلماذا استوعب الحرمان الشريفان ـ وهما مهبط الوحي ومهد التفاعل النموذجي مع النص ـ في أول عهدهما بالإسلام ظاهرةً كالغناء، لم تنطفئ نائرة الجدل حولها إلى يوم الناس هذا، ولا يظهر أنها ستخبو في مقبل الأيام!.

 لقد انتزع الإسلام حب الخمر من قلوب أهل مكة والمدينة، فأريقت في الطرقات، وهي أقوى سورة وأشد وطئا على النفس، فلماذا بقيت نفوس أولئك المسارعين إلى الخير لائطةً بالغناء

لقد انتزع الإسلام حب الخمر من قلوب أهل مكة والمدينة، فأريقت في الطرقات، وهي أقوى سورة وأشد وطئا على النفس، فلماذا بقيت نفوس أولئك المسارعين إلى الخير لائطةً بالغناء! لا أظن الأمر يحتاج كثير جدل، الخمر تم حسمها بنص قاطع فقطع الناس منها حبال حبها والغناء لم تحسمه النصوص فلم تسْلُ عنه النفوس.

صحيح أن المدرسة العلمية الرسمية في الحجاز (مالك عن أبي الزناد عن أحد من الفقهاء السبعة عن زيد بن ثابت) لم يؤثر عنها الترخيص في الغناء، كما لم يظهر هذا الترخيص في الموطإ الذي يمكن اعتباره الوثيقة الرسمية للفقه الحجازي.

لكن إذا انتبهنا إلى أن أقوى حجج المحرمين من ناحية الذوق الفقهي هي سد الذرائع وغلبة الفسق والغفلة على مجالس الغناء، وما ينفق من مال عام على مجالسه وحفلاته، ثم تذكرنا ارتباط تلك الحفلات بالأمراء ومقربيهم من علية القوم، إنه يمكننا هنا أن نفهم سر تشنيع مالك ومدرسته على الغناء ومتعاطيه، وأن في الأمر ـ ربما ـ شيئا من روح إنكار صريح الحرام المصاحب لبعض تلك المجالس، وشيئا من المعارضة السياسية لأمراء ينفقون على مجالس الغناء من مال المسلمين وفيهم من لا يجد قوت يومه ولا لحاف ليله، ومنهم علماء ودعاة يحتاج الناس علمهم ومن ينفق عليهم ليتفرغوا لذلك.

صحيح أن المدرسة العلمية الرسمية في الحجاز (مالك عن أبي الزناد عن أحد من الفقهاء السبعة عن زيد بن ثابت) لم يؤثر عنها الترخيص في الغناء، كما لم يظهر هذا الترخيص في الموطإ الذي يمكن اعتباره الوثيقة الرسمية للفقه الحجازي

إلا أنه يبدو أيضا أن المسألة سبقت تاريخ بني أمية المظلوم، فقد كان الأنصار (يعجبهم اللهو) أو (يعجبهم الغناء)، والظاهر أنهم ظلوا كذلك،

الكريم طروب

 

وإذا كان أهل المدينة يتطَرَّبون سجية وطبعا، فإن هنالك من أهل مكة من يرى أن القطيعة الوجدانية الصارمة مع الطرب من خوارم “الفتوة” ـ وهو نظر ليس غريبا على علماء المنكب البرزخي ـ..

روى الطبري في تاريخه بسنده، قَالَ: لامَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى الْغِنَاءِ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ بُدَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَاضِعٌ رِجْلا عَلَى رِجْلٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِبُدَيْحٍ: إِيهًا يَا بُدَيْحُ! فَتَغَنَّى،فَحَرَّكَ مُعَاوِيَةُ رِجْلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:إِنَّ الْكَرِيمَ طُرُوبٌ”.

نعم الكريم طروب، وعابس الروح لا يتأتى له المجد ولا تحتمله نفوس العامة المفطورة على نبذ العبوس.