إن مقام البشر هو مقام العبودية والتسليم والخضوع لله -تعالى، لكن البعض منهم يتعدون مقامهم هذا إلى مقامات ليست لهم، ولم يكونوا -يومًا- جديرين بها.

فمنهم من جاوز حدّه ودعا أمثاله من البشر إلى عبادته، مثل فرعون الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾ [النازعات: 24].

ومنهم من رفع بعضًا من البشر إلى مقام الألوهية، وهم رافضون لذلك، وغير راضين عنه، مثل النصارى الذين جعلوا عيسى -عليه السلام- إلهًا، قال -تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116-117].

ومنهم من رفع نفسه إلى مقام النبوة، وادعى نزول الوحي عليه، وتلقِّيه من لدن الله -تعالى، مثل: مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وميرزا غلام أحمد صاحب القاديانية، وعلي محمد رضا الشيرازي صاحب البابية، وحسين علي النوري المازندراني صاحب البهائية، وهؤلاء -أظن أنه- لا يخلو منهم عصر من العصور.

فالنبوة اختيار واصطفاء، ثم إن قضية الرسالة عليها مدار الدين، فلم يترك الله -تعالى- خلقه هملاً دون إرسال رسالات لهم تعرّفهم به، وتدلهم عليه.

ومقام النبوة مقام حلّ فيه أفضل الخلق وأزكاهم وأطهرهم وأصدقهم، هؤلاء المختارون عرفوا الله حق معرفته، وقدروه حق قدره، فلم يكن لأحدٍ منهم أن يتعدى مقامه، قال -تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79].

ومن خصائص مقام النبوة أنه مقام تبليغ.. تبليغ الرسالة بحذافيرها دون زيادة أو نقصان.. تبليغ البشارة والنذارة، فالبلاغ والبيان من الرسول، والهداية من الله، والطاعة أو العصيان من البشر تجاه تلك الرسالات، يقول -سبحانه: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: 99]، يقول الطبري: “يقول -تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم -أيها الناس- بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية، وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به، من العاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به؛ لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به بلسانه، وما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق”([1]).

ولم يكن مقام النبوة مقام واسطة بين الله وخلقه في العبادة والدعاء، قال -جلّ ذكره: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].

قال الرازي: “لم يقل: (فقل إني قريب) فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه:

الأول: كأنه -سبحانه وتعالى- يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك.

الثاني: أن قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي﴾ يدل على أن العبد له، وقوله: ﴿فَإِنّي قَرِيبٌ﴾ يدل على أن الرب للعبد”([2]).

وأكد على نفي الواسطة في العبادة والدعاء الطاهر بن عاشور فقال في تفسير الآية الآنفة: “وفيه لطيفة قرآنية: وهي إيهام أن الله -تعالى- تولى جوابهم عن سؤالهم بنفسه؛ إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبيء -صلى الله عليه وسلم؛ تنبيهًا على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.

واحتيج للتأكيد بـ﴿إن﴾؛ لأن الخبر غريب، وهو أن يكون -تعالى- قريبًا مع كونهم لا يرونه”([3]).

فإنّ جعْلَ الواسطة بين الله وخلقه هو مذهب مشركي العرب الذين عرفوا الله ربًّا، لكنهم اتخذوا الأوثان واسطة بينهم وبين ربهم، قال -تعالى: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزمر: 3-4]، قال ابن كثير في تفسير قوله -تعالى: ﴿إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، “أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة.

ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك).

وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه، وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه، تعالى الله عن ذلك”([4]).

ورغم هذه القطعيات في نفي الواسطة بين الله وخلقه في العبادة والدعاء، فإن بعضًا من هذه الأمة وقع في اتخاذ الواسطة يستوي في ذلك طوائف من السنة والشيعة.

فالسنة فيهم متصوفة أنزلوا الأولياء منازل خطيرة، حتى جعلوا منهم أقطابًا تتصرف في الكون، وآخرين ينتظرون منهم نظرة، يقول الأستاذ رشيد رضا رحمه الله: “وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين -حتى الميتين منهم- على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم، مما لم يجعله الله -تعالى- من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله، كالذين يسمونهم الأقطاب الأربعة([5])، وأن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية (نور الإسلام) فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل ما يعجزون عنه من جلب نفع ودفع ضر، وألف بعضهم كتابًا في إثبات ذلك، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم، ويخرجون من قبورهم فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم”([6]).

فهؤلاء جعلوا مقام الولاية أعلى من مقام النبوة، ونسبوا للأولياء -رضوان الله عليهم- ما لم يتم نسبته للأنبياء -صلوات الله عليهم.

أما الشيعة فإنهم جعلوا العصمة في أئمة آل البيت -عليهم السلام، وجعلوا عتباتهم (مراقدهم وأضرحتهم) مقدسة، وأنزلوها منزلة مكة والمدينة والقدس، وفي هذه العتبات يستغاث بهؤلاء الأئمة ويُتوسل بهم لقضاء الحوائج.

فإذا كانت النبوة مقامها التبليغ ولم تكن لوساطة في العبادة والدعاء، فكيف تنحرف بعض الطوائف من الأمة وتجعل بعض الخلق وسطاء بين الخالق والمخلوقين؟


([1]) تفسير الطبري، (11/95-96) باختصار.

([2]) تفسير الرازي، (5/84).

([3]) تفسير التحرير والتنوير، (2/179).

([4]) تفسير ابن كثير، (7/85) باختصار.

([5]) الأقطاب الأربعة هم: الجيلاني، والرفاعي، والدسوقي، والبدوي.

([6]) تفسير المنار، (11/321).