كثيرة هي الكتب التي صدرت في الغرب عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، بإنصاف وموضوعية، وبتأمل جيد لحقائق هذه الرسالة العظيمة ومراحلها.

ولعل تناول هذه الكتابات بالفحص والدرس، ومقارنتها مع غيرها مما لم يصدر بالإنصاف والموضوعية ذاتِهما، لهو خير ردٍّ على هذه الموجة من الاعتداءات على الإسلام ونبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ والتي كلما خفتت بُعثت جمرتها الخبيثة من جديد، حتى يتطاير الشرر، ويكثر السجال.

ومن حسن الطالع، أن يترافق تناولُنا لأحد هذه الكتب المنصفة، مع ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ مما يبعث بتحية وعرفان لنبي الرحمة، الذي جاء للعالمين هاديًا وموجِّهًا.. وكأننا بلسان الحال نقول: إن قَدْرَك أيها النبي الكريم مما لا يخفى على أحد، ومما يتعدى نطاقُه إلى غير أتباعك المؤمنين بك، ليشمل المتطلعين إلى صفات الخير والجمال، والذين رأوا في سيرتك ورسالتك تجسيدًا حيًّا دائمَ الإشعاعِ لتلك الصفات.

ومن حسن المفارقة أيضًا، أن يكون الكتاب الذي نتناوله، لكاتب فرنسي، بينما صدرت الرسوم المسيئة من فرنسا.. فهذا مما يزيد في قوة الحجة والرسالة التي نريدها من هذا التناول!

وأما الكتاب فهو (حياة محمد) للكاتب الفرنسي إميل دِرْمِنْغَم، الذي عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من الميلاد حتى الوفاة، في أسلوب ماتع، وتحليل عميق، ووقفات منصفة.

وقد صدر الكتاب عام 1929م، وترجم إلى الإنجليزية، وإلى العربية بترجمة بديعة من الأستاذ عادل زعيتر نشرت بالقاهرة عام 1945م.

• انطلق درمنغم في كتابه من موقف الإعجاب بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما تقدمه حياته من نموذج وقيم، محاولاً الاقتراب من الروايات الصادقة، مبتعدًا عما ترسمه كتابات بعض الغربيين من خيالات وافتراءات عن السيرة العطرة وصاحبها الأكرم.

فيقول: “أردتُ بهذا الكتاب أن أؤلف سيرة نطقة صادقة للنبي مستندًا إلى أقدم المصادر العربية غير غافل عما جاء في المؤلفات الحديثة، وقد شئتُ أن أرسم للنبي صورة مطابقة لِمَا وُصف به في كتب السيرة ولما يجول في نفوس أتباعه ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً. وإذا كانت كل نفس بشرية تنطوي على عبرة، وإذا كان كل موجود يشتمل على عظة؛ فما أعظم ما تثيره فينا حياة رجل يؤمن برسالته فريق كبير من بني الإنسان”([1]).

ويوضح أنه، في منهجه، سلك “طريقًا وسطًا بين رواية المتقدمين ومغالاة بعض المستشرقين المعاصرين في النقد”. مبيِّنًا أنّ “من المحزن أنْ كانت النتائج التي انتهى إليه المستشرقون سلبيةً ناقصة”([2]).

ويرصد درمنغم تاريخ هذا التشويه، فيقول: “وقد ظلت الأحقاد والخرافات تحاك حول الإسلام؛ فقد وُصف منذ زمن رودولف دولودهيم (620) إلى يومنا هذا، من قِبَل نيقولا دوكوز وفيفيز ومراتشي وهوتنجر وبيلياندر وبريدو وغيرهم، بأنه دجال، ووُصف الإسلام بأنه مجموعة إلحاد وضلالات، وبأنه من عمل الشيطان، وبأن المسلمين من الوحوش، وبأن القرآن نسيج من الأباطيل”([3]).

ثم ينفي درمنغم هذه الكاذيب، متخذًا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على صدق رسالته واستقامة شخصيته، فيقول: “حياة محمد شاهدةٌ على اعتقاده صدقَ رسالته التى حمل أمانتها الثقيلة ببطولة. وإن قوة إبداعه، وعبقريته الواسعة، وذكاءه العظيم، وبصره النافذ الحديد، وقدرته على ضبط نفسه، وعزمه المكين، وحذره، وحسن تدبيره، ونشاطه، وطراز عيشه؛ مما يمنع عَدَّ ذلك الموحَى إليه الموهوبَ الجليَّ مبتلًى بالصَّرع”([4]).

وإذا كان درمنغم يقرر أن “تاريخ البشرية مجموعة من الوحي والإلهامات”؛ أي مليء بسير الأنبياء.. وأن “ظهور محمد كان في دور من أشد أدوار التاريخ ظلامًا، وكانت الحضارات التي قامت في البلدان الممتدة من بلاد المغول إلى بلاد الهند، مضطربة متداعية”.. فإنه يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غيَّر هذا المشهد، وأرسل أشعة النور في الأرجاء المظلمة؛ فيقول: “نهض محمد ليدعو قومه إلى دين الواحد الأحد، ولينبِّه غافل بعض آسية وإفريقية، وليحرر من رق التقليد جميع الذين يدركون حقيقة رسالته، وليجدد بلاد فارس الناعسة، وليحثَّ نصرانية الشرق التي أفسدتها التأملات الفاترة([5]).

وهذا الأثر الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو امتداد لحياة من سبقه من الأنبياء؛ الذين جاءوا ليغيروا العالم ويهدوا الناس إلى طريق الله تعالى.

فشأن الأنبياء- بعبارة درمنغم البليغة البديعة- في العالم كشأن قُوى الطبيعة الهائلة النافعة، كشأن الشمس والمطر، كشأن عواصف الشتاء التي تَهُزُّ الأرض وتثيرها لتتزين ببساط أخضر في بضعة أيام. وأحسنُ شهادة لهم، ما يورثونه من راحة العقول، وسكينة القلوب، وشدِّ العزائم، والصبر على الشدائد، وشفاء الأخلاق المريضة، والأدعية والصلوات التي تَصَّعَّدُ في السماء([6]).

 ويشير درمنغم إلى ما أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم من إصلاح في الناحية الاجتماعية، فيقول: “كان للدعوة المحمدية في جزيرة العرب أثر عظيم ثابت في تقدم الأسرة والمجتمع والصحة؛ فقد حَسُنَ بها مصير المرأة، وحُرِّم بها الزنا والمتعة وحياةُ الغرام،، ومُنع بها إکراه القِيَان على البِغاء لإثراء سادتهن. والإسلام، وإنْ أباح الرق، نظَّم أحكامه؛ فَعدَّ فكَّ الرقاب من الحسنات ومكفِّرًا لبعض السيئات”([7]).

وإذا كان الأنبياء يؤيَّدون بالمعجرات، التي تكون عند المخاطَبين دليلَ الصدق في دعوى الرسالة؛ أي “لابد لكل نبي من دليل على رسالته، ولا بد من معجزةٍ يَتحدَّى بها مختلفةٍ عن كرامات الأولياء؛ فقد تحدى موسى سحرة فرعون بأن يأتوا بمثل ما أتى به من معجزات”.. فيبين درمنغم أن “القرآن هو معجزة محمد الوحيدة؛ فأسلوبه المعجزُ وقوةُ إيحائه التي لا تزال لغزًا إلى يومنا، يُثِيران ساكنَ من يتلونه، ولو لم يكونوا من الاتقياء العابدين. وكان محمد يتحدَّى الانس والجن بان يأتوا بمثله، وكان هذا التحدي أقومَ دليل لمحمد على صدق رسالته”([8]).

كما يلفت درمنغم إلى ما يتميز به الإسلام من وسيطة واعتدال، خاصة في الجانب الروحي والموقف من الدنيا وما بها من زينة ومتاع، فيقول: “كان الكثير من المسلمين يُكثرون من التوبة والاستغفار والصلاة والصوم؛ فرأى محمد أن القَصْدَ أولى من الإفراط؛ فأمر بألا يزيد الصومُ عن يوم من يومين، وأشار بالاعتدال في التقشف، وبترك كل ما يميت النفس. وحدث أن بعضهم كانوا قد قادوا أنفسهم إلى الحج بربط أنوفهم بأرسان الجمال، فقطع محمد هذه الأرسان؛ لأن الله ليست له حاجة بِجَدْعِ الأنوف”([9]).

وإذا كان البعض يستسهل أن يرمي المسلمين بالعنف، وبعدم قبول المختلفين عنهم في الدين؛ فإن درمنغم يفند هذه المزاعم، متخِذًا من تاريخ الإسلام، ومن مقارنته بتاريخ الغرب، دليلاً على تهافتها؛ فيقول: “كُتب الفوز للعرب؛ لأنهم كانوا أهلاً للفوز، وتم النصر للإسلام لأنه عنوانُ رسالةٍ كان الشرق كثيرَ الاحتياج إليها. والمسلمون قد احتملوا ضروب العذاب قبل الهجرة، ولم يستطيعوا لها ردًّا؛ فلما كانت الهجرة وكان لهم من النصر ما علمتَ، اتخذوا التسامح الواسع دستورًا لهم. أجل، لم يبق للمشركين مقامٌ في دار الإسلام، ولكنه أصبح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيها حق الحماية وحرية العبادة وما إليها إذا أعطوا الجزية”([10]).

ويضيف: “وما أكثر ما في القرآن والحديث من الأمر بالتسامح، ولم يَروِ التاريخ أن العرب قتلوا شعبًا بأجمعه، وما دخول الناس أفواجًا في الإسلام إلا عن رغبة فيه. وهنا نذكر أن عمر بن الخطاب لما دخل القدس فاتحًا أمر بألا يُمَسَّ النصارى بسوء، وبأن تترك لهم كنائسُهم، وشَمَلَ البطركَ بكل رعاية، ورفض الصلاة في الكنيسة خوفًا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعةً لتحويلها إلى مسجد. وهنا نقول ما أعظم الفرق بين دخول المسلمين القدس فاتحين، ودخول الصليبيين الذين ضربوا رقاب المسلمين؛ فسار فرسانهم في نهر من الدماء، التي كانت من الغزارة ما بلغت معه رُكَبَهُم ولُجُمَ خيولهم، وعقدوا النية على قتل المسلمين الذين تفلَّتوا من المذبحة الأولى”([11]).

وفي نهاية كتابه، يختم درمنغم ببيان حقيقة مهمة، وهي قدرة المسلمين، رغم ما أصابهم، على تقديم النافع للعالم المعاصر؛ فما وقعوا فيه من تخلف حضاري إنما كان بسبب ابتعادهم عن الإسلام، وليس بسبب تمسكهم به كما يزعم المفترون؛ فيقول: “كان الانحطاط السياسي والاجتماعي موازيًا لنسيان مبادئ الإسلام الصحيح مع أنه لم ينشأ عنها. واليوم يظهر أن الأمم الإسلامية تَنهَض، وهي تستطيع أن تُمِّثل دورًا كبيرًا؛ فتكون أداةَ وصلٍ بين الغرب والشرق الأقصى، وقد تكون الأمم الإسلامية ذُخرًا من أذخار العالم القديم”([12]).

هذه كانت ملامح أساسية في الرؤية المنصفة العميقة التي يقدمها المستشرق الفرنسي إميل دِرْمِنْغَم في كتابه (حياة محمد).. والتي يحتاج الغرب الآن أن يتأملها ويتدبرها، خاصة أنها صدرت عن أحد أبنائه، وليس عن أحد المؤمنين برسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم..

.


([1]) حياة محمد، إميل درمنغم، ص: هـ، ترجة عادل زعيتر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، رقم 103.

([2]) ص: ز.

([3]) ص: 117.

([4]) ص: 244.

([5]) ص: 242.

([6]) ص: 242.

([7]) ص: 253.

([8]) ص: 244.

([9]) ص: 257.

([10]) ص: 330.

([11]) ص: 330، 331.

([12]) ص: 332.