جاءت جل التفاسير الحديثة لتعبر بشكل أو بآخر عن القضايا الفكرية والاجتماعية المستحدثة التي طرأت على ساحة الاجتماع الإسلامي، وفي مقدمتها تفسير المنار المنسوب إلى الشيخين محمد عبده ورشيد رضا الذي خرج عن طريقة المفسرين القدامى في الاعتناء بالألفاظ والتأويلات، واتجه صوب معالجة القضايا المستجدة كقضية المرأة التي تشعبت واتصلت بجميع نواحي النظام الاجتماعي ليس في مصر بل في العالم الإسلامي بأسره، فما هي وضعية النساء في تفسير المنار؟ وما هو موقف المنار من هذه القضية، وهل هناك اختلاف في الرؤى بين الشيخين، وكيف ينظر إليها الدارسون المعاصرون.

نبذة حول تفسير المنار وخصائصه

شرع الشيخ محمد عبده في إلقاء دروسه في التفسير على طلبة الأزهر في ديسمبر عام 1897 واستمر مواظبا عليها حتى وفاته في يوليو 1905، وطيلة سبع سنوات كان قد انتهى من تفسير سور الفاتحة والبقرة وآل عمران، وبعض سورة النساء ثم استأنف السيد رشيد رضا التفسير من الآية 126 من النساء حتى الآية 52 من سورة يوسف ولم يستطع أن يتمه لوفاته عام 1935.

ويعني هذا أن التفسير عمل مشترك بين الشيخين وأنه يعبر عن آرائهما معا، فحتى تلك الأجزاء التي أملاها الإمام وكتبها وحررها السيد رشيد رضا لم تكن لتخلو من آرائه، فقد كان يجلس منه مجلس الطالب، وكثيرا ما كان الطالب يضيف تعليقات وشروحات إلى حديث استاذه مميزا حديثه ببعض الألفاظ مثل (أقول)، (قلت) وما أشبه ذلك، وربما اختلط كلامهما، وعليه يكون من الصعب أحيانا التمييز بين رأي الشيخين في بعض القضايا.

وعند الحديث عن النساء في تفسير المنار فإن الناظر في التفسير وكيفية معالجته للقضية النسائية يستوقفه أمران: الأول أنه لا يظفر بقسم مستقل يتم فيه معالجتها وتحليل القضايا المتفرعة عنها، باستثناء ما كتبه السيد رشيد رضا تحت عنوان”المقصد التاسع من فقه القرآن: إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية”، والذي لا يعالج مجمل القضية وإنما يتحدث عن فضل الإسلام على المرأة، ومرد ذلك أن الشيخين سلكا المسلك التقليدي في التفسير الذي يعمد إلى تفسير الآيات وفق ترتيبها في المصحف، وهو ما يعرف باسم التفسير التحليلي، ولم يقدما تفسيرا موضوعيا.

والثاني: النزوع الدفاعي الذي يغلف معالجة المنار لقضية المرأة، فهناك تشديد على فضل الإسلام على المرأة، وكفالته حقوقها الإنسانية والمدنية والمالية ومخاطبتها بالتكاليف الشرعية مثل الرجل، وأنه منحها حقوقها في وقت كانت تُعامل فيه النساء في بلاد العرب وفي الحضارات الأخرى معاملة لا إنسانية، ومع كثرة الإحالات والمقارنات مع الحضارة الغربية يخيل لنا أن التفسير كان مسكونا بهاجس دحض المزاعم الأجنبية بشأن المرأة التي عبر عنها اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر من خلال كتابه (مصر الحديثة)، ولعل هذا كان أحد الدواعي التي صرفته عن تقديم مقاربات أكثر انفتاحا لقضية المرأة، وهو الأمر الذي نتبينه من معالجته للقضايا الفرعية المتعلقة بها وعلى رأسها المساواة.

قضية المساواة

وفي مسألة الحديث عن النساء في تفسير المنار، يقرر تفسير المنار أن الرجل والمرأة متساويان من حيث المبدأ، فهما حسب عبارة الشيخ محمد عبده “متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه… فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستزله ويستخدمه لا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة”[1].

على أن المساواة بين الجنسين ليست مطلقة لأنها تشمل جميع الحقوق إلا أمرا واحدا هو الرئاسة التي ينبغي أن تكون للرجل مصداقا قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)، وذلك لسببين، الأول فطري وهو أن المرأة تتمتع بضعف في أصل الخلقة يجعلها في احتياج دائم لحماية الرجل، والثاني كسبي فالرجل “أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله”[2]

وهذه الرئاسة من مقتضيات الحياة الاجتماعية كما يفترض الإمام إذ “لا بد لكل اجتماع من رئيس; لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف..” ويفهم منه أن الإمام لا ينظر إلى المساواة بوصفها مماثلة ظاهرية بين الرجل والمرأة، كما هو الحال في النظرة الغربية ، وإنما يفهمها إنطلاقا من تعبير “الدرجة” على أنها حقوق وواجبات متبادلة، فيقول “وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها، إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال”[3]

ومع هذا القيد على المساواة إلا أنها تظل درجة لم يصل إليها “دين سابق ولا شريعة من الشرائع بل لم تصل إليها أمه من الأمم قبل الإسلام ولا بعده” ولا حتى وصلتها المدنية الغربية الحديثة التي لم تزل- أيام الإمام- تحرم الزوجة من حقوقها المالية، وتجعل الزوج متصرفا بها.

قضية تعدد الزوجات

عند التطرق إلى الحديث عن النساء في تفسير المنار، نجد أن قضية تعدد الزوجات شغلت بال الإمام منذ وقت مبكر فكتب بشأنها مقالا في الوقائع المصرية -حين كان محررا بها- أشار فيه إلى مضاره الاجتماعية، وأما في التفسير فقد نعتها بأنها  “مفسدة في نظام الاجتماع تُغضب الله”، وهو لا ينكر أن التعدد كانت له فوائده في صدر الإسلام من مثل: صلة النسب والصهر الذي تقوى به العصبية، ولم تكن له آثار سلبية كما هو مشاهد الآن، مرجعا ذلك إلى أن كان حاكما للسلوك والتصرفات قديما.

ويجادل الإمام إنه رغم فوائد التعدد إلا أنه لم يكن في الإسلام مطلقا بلا شرط وإنما هو “مقيد بالعدل والإقساط في النساء” لقوله تعالى “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”، وهو شرط عسير “فكأن القرآن نهى عن كثرة الأزواج” من خلال هذا الشرط.

ويخلص الإمام من بحثه المستفيض لهذه المسألة بنتيجة مفادها ” أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل، والأمن من الجور، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات… فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت، ومن البيوت إلى الأمة”[4] وهو ما يستشف منه أنه يعتبر التعدد معيقا للتطور الاجتماعي وحائلا أمام ترقي الأمة وتربيتها ولذا دعا الشيخ العلماء إلى إعادة النظر في هذه المسألة “فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس، وخيرهم، وأن من أصوله منع الضرر، والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم، وتطبيقه على الحال الحاضرة: يعني على قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .. وبهذا يُعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعا عند الخوف من عدم العدل”[5].

أما موقف السيد رشيد رضا من مسألة تعدد الزوجات في إطار الحديث عن النساء في تفسير المنار، فيبدو أكثر تركيبا، لأنه عقب على الرأي السابق للإمام بما نصه ” وإن تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية، فإن الأصل أن يكون للرجل امرأة واحدة يكون بها كما تكون به زوجا، ولكنه ضرورة تعرض للاجتماع، ولاسيما في الأمم الحربية كالأمة الإسلامية، فهو إنما أبيح للضرورة، واشترط فيه عدم الجور، والظلم” [6]ولم يقف السيد عند هذا ولكنه اعتقد في إمكانية الحد القانوني للتعدد عن طريق “منع الحكام لمفاسد التعدد بالتضييق فيه إذا عم ضرره كما هي الحال في البلاد المصرية”[7].

غير أنه لم يلبث إلا أن أضاف فتوى وردت إليه في المنار حول حكمة التعدد وذهب فيها إلى أن مبرر التعدد يكمن في الطبيعة فالرجل “أكثر طلبا للأنثى منها له” وأما المرأة فهي تفقد استعدادها للتناسل بعد الخمسين في الغالب “فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلا من النسل الذي هو مقصود الزواج”[8].

أوحت تلك الآراء للسيد رشيد رضا بأن هناك اختلافا في الرأي بينه وبين الإمام محمد عبده على نحو ما ذهب الباحث التونسي المنجي الشملي الذي اعتبر أن موقف المنار من مسألة التعدد ذو اتجاهين: اتجاه مشتق من الواقع ومتحرر من أسر الحجج الإسلامية التقليدية وهو اتجاه الإمام، واتجاه قائم على تبرير التعدد وهو اتجاه السيد رشيد رضا[9]. غير أننا لا نعتقد ذلك لسببين:

 الأول: أننا أوردنا نص السيد رشيد الذي يقطع بأن التعدد ليس أصلا في الزواج، ويقبل فيه بإمكانية تقييد التعدد بحكم القانون، وهذا النص أغفله الشملي حين الاقتباس ليوهم بوجود تضاد بين الرأيين.

والثاني: أن ما ذهب إليه السيد رشيد في مبررات التعدد، لا يعني أنه داعية له، وإنما هو يجيب على سؤال ضمني هو: لم أباح الله التعدد في كتابه؛ وهو لا يستطيع أن ينكر أن لذلك حكمة ومقصدا اجتماعيا، وإذا كما لا نتفق مع تأويله لهذا المقصد ورده إلى الطبيعة الإنسانية باعتبارها ثابتا لا يعتريه التغير والتبدل بمضي العصور والدهور لكنا لا نغفل عن أن هذه كانت الثقافة السائدة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وجل الكُتاب -حتى التنويريون – كانوا يصدرون عنها.

قضية خروج النساء وتعليمهن

وهي قضية أخرى أثيرت ضمن تفسير المنار على خلفية  توسع الدولة في إنشاء مدارس تعليم الإناث، وخروج نساء كثير من الأسر للتعليم، وقد أيد المنار بصفة عامة الدعوة إلى تعليم المرأة التي لم تكن تحظى بدعم كبير بين صفوف الإسلاميين، وانطلق في ذلك من تأويله لأية: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، التي استنتج منها الإمام أن “فيها ما يرى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا ما استثني منها”[10].

على أننا نلحظ أن التفسير لم يشأ أن يتبنى الدعوة إلى التعليم على إطلاق وإنما ضبط نوع التعليم بحيث يتلاءم مع يتلاءم مع الوظيفة الزوجية للمرأة فهو يدعوها إلى ” العلم بما عليها من الواجبات والحقوق لربها وبعلها ولأولادها” ويشترط وجوب تمكينها من التربية الدينية قبيل أن تمكن من العلوم الأخرى، وينحو باللائمة على الأولياء الذين يعلمون بناتهم القراءة والكتابة وبعض اللغات الأجنبية والموسيقى وبعض أعمال الخياطة والتطريز دون أن يصحب ذلك شيء من التربية الدينية، معتبرا أن ذلك من ” عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تُجهل عاقبته”.

ويتساءل صاحب التفسير في استياء “فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء – لا سيما في المدن – ألا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن وعلى نساء الفقراء – لا سيما في القرى والبوادي – أن يكن كالأتن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شئون العالمين؟ كلا بل فسق الرجال عن أمر ربهم، فوضعوا النساء في هذا الموضع بحكم قوتهم، فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن.” وما ذهب إليه في هذه المسألة جدير بالنظر لأنه عد الرجال مسؤلون عما وصل إليه حال النساء المسلمات، ولم يسلك المسلك التقليدي من أن نفوس النساء أدنى من الرجال وأنهن بحكم طبيعتهن المجبولة على الكيد والغواية أقل قابلية للتهذيب والترقي.

خلاصة القول، أن تأويلات المنار للقضية النسائية اعتبرت في حينها تأويلات وتخريجات عصرية تحاول التوفيق بين النص القرآني المنزل مع المتغيرات المعاصرة، وعدها تيار الإصلاح الإسلامي ناجحة في حينها بل لم يزل صداها يتردد صراحة في كثير من المؤلفات الإسلامية باعتبارها آراء عصرية منفتحة، غير أن هذه التأويلات فقدت جل بريقها لدى فريق من الدارسين وأعني الباحثات النسويات والدوائر البحثية الغربية إذ ينظر إليها بوصفها تأويلات تقليدية لا تعدو كونها إعادة صياغة لحجج دفاعية قديمة، ومن ثم يتبنى هذا الفريق فكرة إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسوي للخروج بتأويلات أكثر انفتاحا وتحررا لقضية المرأة.


[1] تفسير المنار، نسخة المكتبة الشاملة، 298/2.

[2] تفسير المنار، 301/2.

[3] تفسير المنار، 298/2.

[4] تفسير المنار، 286/4.

[5] تفسير المنار، 287/4.

[6] تفسير المنار، 287/4.

[7] نفس المرجع السابق.

[8] تفسير المنار، 289/4.

[9] المنجلي الشملي، قضية المرأة في تفسير المنار، منوبة: حوليات الجامعة التونسية، ع 3، 1966، ص14.

[10] تفسير المنار: 266/3.