للمشي مركزية في حياة الإنسان وتاريخه، فمنذ نزوله إلى الأرض وهو يمشي، وإذا توقف فإن الأدواء تمشي في جسده مُصيبة إياه بالضعف والوهن، فهو رياضة الجميع غير المكلفة، والتي لا تحتاج إلى صالات تدريب أو ملاعب مجهزة أو إنفاق ضخم، وعلى الجانب الفلسفي كان المشي رياضة للغالبية من الفلاسفة والمفكرين بحثا عن أفكار جديدة، أو إمساكا بأفكارهم الهاربة في ضوضاء الحياة وتنافسها وصراعاتها، وفي الإسلام حضر المشي في الكثير من الآيات والأحاديث النبوية، سواء بمدحه مادام في طاعة أو معروف، وبذمه إذا كان في معصية أو إلى خطيئة، لكن عرفت السنة النبوية“النسلان” وهو المشي السريع، الذي يطوي المسافات، ويقوي الجسد ولا يرهقه، ويوفر الوقت.

النسلان .. قوة وإنجاز

“النسلان” هو المشي السريع، وهو وصف لمشية الذئب إذا نهض لفريسته، فهو يمشي بخطى متلاحقة متسارعة، وقد أوصى النبي-صلى الله عليه وسلم – بالنسلان، فقال:” عليكم بالنسلان، إنه يقطع عنكم الأرض وتخفون له”، وذلك عندما جاءه نفر من أصحابه يشكون له التعب من سفرهم، فأوصاهم بـ”النسلان” ففي الحديث الذي أورده الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة أن المشاة شكوا إليه من الإجهاد أثناء حجة الوداع ، إذ كانوا يمشون من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، فكانت وصيته -صلى الله عليه وسلم- لهم:”عليكم بالنسلان” فخففت تلك الوصية عليهم التعب، ومكنتهم من الوصول إلى غايتهم في وقت أسرع، وبأقل جهد، لذا قال الصحابة :” فنسلنا فوجدناه أخف علينا” لذا وضع المحدث “ابن خزيمة” في صحيحه بابا بعنوان “باب استحباب النسل في المشي عند الإعياء.”

وقد أوردت كتب السنة والسيرة الكثير من الأحاديث والروايات عن مشية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي كان فيها قوة وإسراع ، فقيل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ” إذا مشى تكفأ تكفؤا  كأنه ينحدر من صبب” أي كان يسرع في مشيته، حتى يظن الرآي أنه، صلى الله عليه وسلم، ينحدر من مكان مرتفع، ووصف، صلى الله عليه وسلم بأنه “كان أسرع الناس مشية وأحسنها ” يقول “ابن القيم” في كتابه “زاد المعاد” عن تلك المشية بأنها “هي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها عن مشية الهوج والمهانة والتماوت”، وذكرت كتب السنة “أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يمشي مشيًا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان ” وكان -صلى الله عليه وسلم- في مشيه لا يلتفت، وهي حالة تشير إلى الابتعاد عن أية شواغل تعطل مشيه، مادام لا يوجد ضرورة لذلك، يقول الصحابي “أبو هريرة” رضي الله عنه:”ما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كأنما الأرض تُطوى له”، وذكر الإمام الترمذي في صحيحه، أنه- صلى الله عليه وسلم- “إذا مشى تقلع” أي رفع قدمه بقوة عن الأرض، وكأن جسمه كله يتحرك في مشيه، وهي كناية عن إبداء القوة والنشاط والحيوية.

اقرأ أيضا :الرياضة في تاريخ المسلمين

المشي أفضل

يقول الطبيب الفيلسوف “ابن سينا“:”مسكنات الأوجاع: المشي الطويل، والانشغال بما يُفرح الإنسان”، وربما هذا ما أكده الطبيب والفليسوف “أبو زيد البلخي” في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس” عن تأثير المشي في حيوية الإنسان، بقوله:” وقد ترى الماء الجاري بعيداً من الفساد، والراكد كثير العفونة، ولذلك صار المترفون يُدفعون إلى أمراض مزمنة كالنقرس وغيره، والإنسان خلق خلقاً متحركاً مشاءًا بالطبع، فإذا عطل نفسه مما خلق له أدى ذلك إلى المرض، ولا يسرف في الحركة؛ فإن إفراطها أسرع في توليد الأمراض، والملوك أحوج إلى الرياضة من العوام لكثرة تودعهم، ولاختلاف الأطعمة والأشربة عليهم، فأما العوام والسوقة فهم في رياضة دائمة”.

كتاب “مصالح الأبدان والأنفس” لـ أبو زيد البلخي

وقد استرعى المشي اهتمام الأطباء والمهتمين بالصحة البدنية والنفسية والعقلية، ورأوا فيه الرياضة الأفضل للإنسان، الذي بات قابعا بلا حركة أغلب يومه، مُعطلا جسده وقدميه، في ظل نمط الحياة الحديثة، فيشير الروائي الألماني الشهير “باتريك زوسيكيند” Patrick Süskind:   في روايته ” الحمامة The Pigeon على لسان أحد أبطاله: “المشي يهدئ الأعصاب، في المشي تكمن قوة شافية، هذه الرتابة في تحريك قدم بعد الأخرى بإيقاع متزن مع التلويح بالذراعين على الجانبين، هذا التسارع في تردد النفس والنشاط الخفيف في النبض، ذلك التوظيف الضروري للعينين والأذنين لتحديد الاتجاه والمحافظة على التوازن، هذا الشعور بالهواء الذي يهف على الجلد، كل هذه أشياء تضطر الروح والجسد للتوحد بطريقة حتمية، وتترك الروح، حتى لو كانت في أشد حالاتها غياباً وتثاقلاً، تنمو وتتسع”.

ومن الناحية العصبية فإن المشي يدفع القلب للنبض وضخ الكثير من الدم في الجسد، فتزداد نسبة الأكسجين، فينشط الدماغ ويأخذ في التفكير، لذا كان الكثير من الفلاسفة والمفكرين  يبدعون أثناء المشي حتى قال “نيتشه”: “الأفكار التي يتم التوصل إليها عن طريق المشي فقط لها قيمة… لا تصدق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق وحرية الحركة”، ومن ثم أخذ الاهتمام بالمشي يتزايد عالميا، ويُفضل على الركض، يقول ” كايسي مايرز ”  Casey Meyers  في كتابه عن المشي:” الشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنحه لك الجري ولا يوفره المشي هو الإصابات” والطريف أنه في كتابه أبدى ندمه على الركض، وقال:” تأملت تشريح الإنسان وقرأت عن تركيبة جسمه الحركية، واستنتجت أننا لو خلقنا للجري لخلق الله لنا أربعة قوائم”، وبعد تأمله في حركة المفترسات من الحيوان، توصل إلى أن المفترسات لا تطيل الجري وراء فريستها أكثر من دقيقة.

كتاب المشي لـ كايسي مايرز

وتمدح الكثير من الدراسات الأمريكية المشي السريع “النسلان”، وتشير أن اتباع نظام رياضي بسيط مثل المشي مائة خطوة سريعة بالدقيقة، أو ألف خطوة على ذات النسق كل عشر دقائق يساعد على التخلص من الكثير من الأمراض الناتجة عن البدانة، وأكدت دراسة بجامعة جورجيا الأمريكية أن التمرينات الدورية قليلة الكثافة مثل المشي الخفيف يمكن أن يعزز من مستويات الطاقة بنسبة 20 % ويقلل من الشعور بالإجهاد بنسبة 65 %..

كتاب فلسفة المشي لـ فريديريك جروس

في كتابه “فلسفة المشي” A Philosophy of Walking  لفت ” فريديريك جروس ” Frederic Gros الانتباه إلى دور المشي الإبداعي، مستعرضا الأفكار والكتب التي تولدت لدي المبدعين أثناء مشيهم، فالفلاسفة والمفكرين الأكثر إنتاجا كانوا مشائين لا يعرفون الملل، فالمشي حقق لهم مساحة من الحرية توالدت فيها الأفكار والإبداعات، أما عالم الأعصاب الأيرلندي ” شين أومارا”   Shane O’Mara  في كتابه “في مديح المشي In Praise of Walking فأكد أن المشي مفيد للعضلات والدماغ معا، لأن المشي المنتظم يطلق العنان للقوى المعرفية للدماغ بشكل لا مثيل له، ووصف الجلوس بلا مشي،  بأنه “التدخين الجديد”، وذلك لأن الجسد الإنساني مبني على الحركة المنتظمة، والحياة الخالية من الحركة تتسبب في انخفاض الكتلة العضلية وضعفها، كذلك لها تأثيرات سلبية على الدماغ والشخصية، وهناك دراسات تؤكد أن الأفراد الأكثر خمولا سينعكس ذلك على شخصيتهم ، لذا يؤكد  “أومارا” أن البشر ليسوا مجرد أدمغة داخل الجماجم، ولكن عقول في حالة حركة، والمشي في وضع مستقيم يجعل عقولهم متحركة.

كتاب “في مديح المشي لـ شين أومارا