الاستعمار في معناه العام هو الاستفادة من الآخرين رغما عنهم، ودونما تقديم أي تعويض لهم[1]، والاستعمار منذ القديم، وحتى الوقت الرهن يقوم بتغيير أشكاله وطرق سيطرته، لكن الشيء الوحيد الباقي هو روحه المتسلطة، والغرب يعتبر نفسه ممثلا للوجود الإنساني الحقيقي على الأرض، ونمط معرفته هو الأمثل للمعرفة، وتاريخه هو تاريخ العالم.

وفي العدد (الثاني عشر) من مجلة الاستغراب، نقاش واسع لمفهوم “ما بعد الاستعمار” سعت فيه المجلة أن تتناول المفهوم على مستويين، الأول: نقاش المفهوم في البيئة الأوروبية التي أنتجته، والثاني: مناقشته في البيئات الأخرى التي ترى في المفهوم وسيلة للمقاومة الفكرية لأطروحات الهيمنة والتوسع الغربي.

وقد جاء مفهوم “ما بعد الاستعمار”[2] غربيا في ظل اتجاه يطرح “المابعديات”، سواء “ما بعد الحداثة” أو “ما بعد العلمانية” أو “ما بعد الأيديولوجيا” وهو اتجاه كان يغطي على الانتقادات الموجه للحداثة الغربية، فنظريات “ما بعد الاستعمار” اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية.

الاستعمار وروحه الباقية

يلاحظ أن الدول استقلت، ورثت كثيرا من المؤسسات التي أنشاها الاستعمار، بل كان كثيرا من قادة الجيش وضباطه يخدمون تلك الإمبراطوريات الاستعمارية، كما ورثت تلك الدول كثيرا من الأجهزة الأمنية التي كان يديرها الاستعمار ويستخدمها لإسكات الشعوب وقهرها، لذا كانت تلك الدول ضعيفة، وشهدت الكثير من الانقلابات العسكرية بعد الاستعمار، وفي حقبة ما بعد الاستعمار لم تتخل الإمبراطوريات الاستعمارية عن مناطق نفوذها بسهولة، ومما زاد الأزمة أن بعض الشعوب لم يكن لها هوية سياسي تختلف عن هوية تلك الإمبراطوريات.

الخبرة الغربية تشير أن التكنولوجيا تغير المبادئ الأساسية للسيطرة، فباتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، فالعقل الغربي أضفى على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً، ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم، ومن ثم جعل ذلك مبررا للتوسع الاستعماري

وقد لعبت الإدارات الاستعمارية دورا في خلق أشكال من المعرفة العلمية الاستعمارية، حيث كانت الدراسات العلمية تدمج مع السياسات لوضع إستراتيجية للهيمنة والسيطرة، فمثلا قبل رحيل الاستعمار البريطاني من بعض الدول افريقية قرب الاستعمار مجموعة من العلماء الأفارقة إليه، واستخدمهم لجمع معلومات وإجراء أبحاث عن بلادهم ومجتمعهم، ورغم أن هؤلاء العلماء الأفارقة استفادوا معرفيا، إلا أن كثيرا منهم تماهوا مع الاستعمار معرفيا وعلميا.

الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من  الولاءٍ النفسيٍّ، بإرادةٍ ووعيٍ، فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه[3]، لذا استهدفت نظرية “ما بعد الاستعمار” محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء الغربية.

ما بعد الاستعمار

يؤكد المؤرخ الفرنسي “جاك بوشيباداس” في حواره الذي نشرته “الاستغراب” أن ما بعد الاستعمار، ما هو إلا تيار نقدي وليس درسا أكاديميا، وأن دراسات ما بعد الاستعمار نشأت خلال الثمانينات من القرن الماضي، خصوصا في الولايات المتحدة، وذلك بعدما نشر المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” عام  (1978م) كتابه  “الاستشراق” الذي كان هدفه نقد خطاب الغرب عن العالم الإسلامي.

ويرى “بوشيباداس” أن جزءا من التحدي الذي واجه فكر ما بعد الاستعمار، أنه عمل بشكل أساسي على النصوص، مع هجرانه لأرض الواقع والنضالات الاجتماعية، فتُركت الجماهير المقموعة لقدرها الحزين، فهوس هؤلاء المفكرين بالنصوص حال دون رؤيتهم لكثير من الأشياء، كما أن كثيرا من دراسات ما بعد الاستعمار ذات مصدر أدبي، وهو ما عكس العلاقة المتوترة بين الأدب والتاريخ.

ويؤكد ” بوشيباداس ” أن دراسات ما بعد الاستعمار لم تطرح نفسها على النقاش العام في فرنسا إلا بعد خمسة وعشرين عاما من صدور كتاب “الاستشراق” ولعل ذلك يرجع إلى أن تيارات ما بعد الاستعمار كانت مرتبطة بفكر ما بعد الحداثة، وهذا الفكر لم يتحرك بسرعة في فرنسا، وربما ما فتح الباب في فرنسا للحديث عن نظريات ما بعد الاستعمار، هو أزمة الضواحي التي انفجرت في العام 2005، ففتحت الحديث عن ذاكرة الاستعمار.

ويعد إدوارد سعيد ومن أهم منظري “ما بعد الاستعمار” وعني بتفكيك الخطاب الاستعماري الجديد، واهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية المعنية بتحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكا وتشريحا، ويؤكد “سعيد” أن العلاقة بين الشرق والغرب مبنية على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة، فبنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير، والاستشراق ما هو إلا نوع من التسلط الثقافي، يؤكد التفوق الأوروبي مقابل التخلف الشرقي.

ومن رواد نظرية ما بعد الاستعمار، الباحث الهندي “هومي بابا” الذي اهتم بالنصوص التي تستكشف هامش المجتمع في عالم “ما بعد الاستعمار” والتي ترصد العلاقات الخفية والمتبادلة بين الثقافات المهيمنة والمستعبدة، ويرى “هومي” أن التفاعل بين الاستعمار وبين الشعوب المستعمرة يؤدي إلى انصهار المعايير الثقافية التي تؤكد السلطة الاستعمارية، وتعد الناقدة الهندية “جي سي سبيفاك” أول منظرة نسوية في الخطاب “ما بعد الاستعماري”، حيث ركزت على مفهوم “الأتباع” الذين يعتبرون في مرتبة أدنى، واهتمت بالدفاع عن المرأة الشرقية في مواجهة الهيمنة الغربية، ومن رواد المدرسة-أيضا- المفكرين المصريين “حسن حنفي” و”عبد الوهاب المسيري” الذين اهتما بتعرية النسق الحضاري الغربي، وتقويض مقولاته المركزية، وتفكيك مقاصده الأيديولوجية.

وعرفت نظريات “ما بعد الاستعمار” روادا غربيين، مثل:” فرانز فانون”[4]، الذي حلل طبيعة الاستعمار، ويبين طابعه الذاتي والمصلحي معتبرا الاستعمار مصدر العنف والإرهاب، وكذلك الباحث الإنجليزي “روبرت يونغ” صاحب كتاب “أساطير بيضاء: كتابة التاريخ والغرب ” الصادر عام 1990.

_________________________________________________________________________________________________________________________________________________:

[1] يعتبر العام (1493) البداية الرسمية للفعل الاستعماري، بمفهومه الأوروبي، أي الاستعمار القائم على النهب العنيف للمستعمرات، ونقل المنهوبات إلى المركز الاستعماري الأوروبي، على عكس النموذج الاستعماري القديم الذي كان ينتقل فيه شعب أو قبيلة للاستيطان في مكان ما، ثم تستولي على تلك الأرض وتستوطنها.وقد قامت إسبانيا والبرتغال ابتداء من أواخر القرن الخامس عشر الميلادي بحركة استعمارية تستهدف النهب لكل ما يقع تحت يدها في المحيط الأطلسي، منهية بذلك شرعية القرصنة التي كان يمارسها البحارة الأوروبيون على السواحل الإسلامية، والتي كانت تقوم على قاعدة “انهب واهرب”.ففي العام (1493م) أصدر البابا “إسكندر السادس” مرسوما بابويا، بارك فيه ملكي إسبانيا والبرتغال لما يقدمانه من خدمات لنصرة الكنيسة، وبارك معاهدة “توردسلاس” التي تقاسمت فيها الإمبراطوريتان العالم فيما بينهما، حيث رسما خطا وهميا بينهما في المحيط الأطلسي، يمتد بين القطبين الشمالي والجنوبي، فمنح البابا كل المناطق المستكشفة أو التي ستكتشف غربي الخط إلى إسبانيا، أما شرقيه فكانت من نصيب البرتغال.

[2] مفهوم “ما بعد الاستعمار” يعاني من حالة التباس على مستوى المفهوم، بين كونه مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه، وبين كونها وسيلةً معرفيةً يستخدمها الغرب لإنتاج أنظمة ومفاهيم جديدةٍ تمكِّنُه من إدامة هيمنته على العالم.

[3] بحسب فرانز فانون صاحب “معذبو الأرض” فإن “المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهمٍ إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطار عائلي جديد”

[4] فرانز عمر فانون (1925-1961) وهو طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي، عرف بنضاله ضد العنصرية والتمييز، ورغم أنه مواطن فرنسي أسود من أبناء المستعمرات، إلا أنه انضم إلى جبهة التحرير الجزائرية، وتولى مهام طبية ودبلوماسية وعسكرية، وأصبح سفيرا للحكومة الجزائرية في غانا 1960، كان يوصف بأن “عقله على نار لن يهدأ إلا بالموت”، أول كُتُبِه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” صدر عام (1952م)، وهو دراسة نفسية للمشاكل التي يواجهها السود بسبب العنصرية. أما كتابه معذبو الأرض (1961م) فهو الذي أطلق شهرته، وفي هذا الكتاب يرى فانون أن باستطاعة الجزائريين الحصول على الاستقلال عن طريق العنف الثوري وحده.