” لقد قٌتل الحسين بن علي بشرع جده” مقولة تتردد في الدوائر الثقافية على أنها من مقالة (ابن خلدون) المؤرخ الكبير! أو أنها من قول (ابن العربي) القاضي المالكي.

فهل حقا، قال ذلك ابن خلدون ، أو ابن العربي، أو قال ذلك غيره من كبار أهل السنة؟

الغريب أن هذه المقولة في نسبتها لابن خلدون، انتقلت من الدوائر الثقافية إلى الدوائر العلمية،حيث وصلت إلى أسماع (الهيثمي) المحدث الكبير، فقد قال عنه تلميذه السخاوي: “وقد كان الحافظ الهيثمي يبالغ في الغض من ابن خلدون قاضي المالكية؛ لكونه أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما في تاريخه، وقال: قتل بسيف جده” [1]

تحقيق النقل عن ابن خلدون

بالرجوع إلى تاريخ ابن خلدون، نجد أنه بالفعل ذكر هذه المقولة، لكنه ذكرها مستنكرا لها، ورافضا إياها، وقد نسبها إلى القاضي ابن العربي، قال ابن خلدون: “وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه: إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومَن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء!” [2]

ولذلك ذكر الهيثمي أن هذه المقولة لا توجد في تاريخ ابن خلدون، لكنه احتمل أن تكون موجودة في نسخة أخرى.

ابن خلدون في تحليله متسق مع نظريته في بناء الحكم على العصبية، التي استودعها مقدمة تاريخه كلها

تحقيق النقل عن ابن العربي

بالرجوع إلى كتاب العواصم لابن العربي، نجد أن الكتاب خلو من هذه العبارة، لكنه ليس خلوا من تقييم غير مريح لثورة الحسين بن علي- رضي الله عنه-. ويبدو أن عدم الارتياح لثورة الحسين بن علي على يزيد بن معاوية لم يكن هوى ابن العربي وحده، ولكنه أيضا يمكن أن يُستشف من تاريخ ابن خلدون!

ولذلك حينما برَّأ السخاوي (ابن خلدون) من ذكر هذه اللفظة صراحة، لم يبرئه منها ضمنا، فقال السخاوي: “وسأذكر عن ابن خلدون في ذكر الخلفاء ما يكاد أن يكون شاهداً لصدور هذا..” [3]

تقييم موقف ابن العربي وابن خلدون

لكن المتابع لرأي ابن خلدون من ثورة الحسين يُدرك بوضوح أنه لم يكن بصدد التقييم الشرعي حينما ذكر عدم الارتياح لثورته، ولكنه  ذكره بدوره خبيرا عسكريا، ومؤرخا محللا للأحداث، فمن المعروف أن ابن خلدون لم يكن مجرد مؤرخ، بل كان له نظريات كاملة في العمران، وعلم الاجتماع. فقد قال نصا: “وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه؛ لأنّه منوط بظنّه، وكان ظنّه القدرة على ذلك”.

وقال عن تحليله لموازين القوى بينه وبين يزيد: “وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره، فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك، وظنّها من نفسه بأهليّته وشوكته. فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة، وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها؛ لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش وسائر النّاس ولا ينكرونه” .

فابن خلدون في تحليله متسق مع نظريته في بناء الحكم على العصبية، التي استودعها مقدمة تاريخه كلها.

وأما ابن العربي، فقد كان  عدم ارتياحه لثورة الحسين شرعيا أكثر منه سياسيا، فقد قال في الاعتذار عمن خرج في جيش يزيد في مواجهة الحسين: “وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم  «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان» . فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله.” [4]

على أن تقييمه لم يخل من تحليل سياسي، ندرك ذلك في مثل قوله: ولو أنه وسعه بيته أو ضيعته أو إبله – ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر – لم يلتفت إليهم، وحضره ما أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم وما قال في أخيه، ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟

سبب هذا الموقف من ابن العربي

لا يجد الباحث عناء في تفسير هذا الموقف من ابن العربي حينما ندرك أن الفقهاء المتأخرين انحازوا إلى عدم الخروج المسلح ضد الحاكم إلا في حالة الكفر البواح، وابن العربي على تقدمه واحد من هؤلاء، فقد توفي عام 543هـ

إن مشكلة ابن العربي أنه لا يرى أن توريث الحكم مشكلة أو جريمة متى آل الحكم إلى رجل عادل حسب الطاقة

وأصبح الخروج المسلح في تضاعيف هذه الحقبة الزمانية، يُحكى على أنه قول تاريخي قديم، لم يَعُد أحد يقول به، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن صالح وكان يرى الخروج المسلح: ” كان مذهبا للسلف فقال: (وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه). ([5])

يُضاف إلى ذلك أنه لم يكن يرى في يزيد بن معاوية من الفسق ما يستوجب النقمة والخروج عليه، فأقصى ما فيه أنه مفضول بين فضلاء، وأن الحسين بن علي أفضل منه، لكن إمامة المفضول في وجود الفاضل جائزة في أحد قولي الفقهاء، وكأنه يعزز فكرة: المستبد الباسط للأمن والعدل في الحدود الدنيا لا يُنظر إلى استبداده.

فقد كان يرى أن الخروج على يزيد خروج لتخليص الأرض من الخمر، لكنه انتهى إلى غمرها بدماء الحسين ومن معه، وهذا في رأيه نكول عن قبول أدنى المفسدتين!

يقول ابن العربي: “ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. ولما في حلها – أو طلب الفضل – من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.”

إن مشكلة ابن العربي أنه لا يرى  أن توريث الحكم مشكلة أو جريمة متى آل الحكم إلى رجل عادل حسب الطاقة!

ولذلك لن يلتقي مثل هذا الفكر مع فكر الحسين بن علي الذي أراد بثورته -فيما نرى- أن يعيد الأمر إلى إرادة الأمة تختار من تشاء وترد من تشاء، دون أي ضغط، وأن بيعتها ليزيد يشوبها الإكراه؛ لأنه ابن الخليفة. ومما يؤكد هذا أن الحسين، وسعه الدخول تحت ولاية معاوية بن أبي سفيان والبيعة له عشرين سنة، وسمع له وأطاع هذه المدة الطويلة، بينما ثار على ولده يزيد من السنة الأولى في حكمه.


[1] – الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (ص: 174)

[2] – تاريخ ابن خلدون (1/ 271).

[3] – الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (ص: 174)

[4] – العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية (ص: 232)

([5]) فتح الباري (12/286)، وتهذيب التهذيب (2/288).