حين تطالع سير المستشرقين؛ ترى عيناك فيهم الشريف الحصيف، والمحتال الدنيء، والساذج الطيب، والفاجر الخبيث، والجاسوس العميل، وتتلون أمامك حيواتهم طرائق قدداً؛ فمنهم الذي كانت حياته دراسة وبحثاً، ومهم من كانت أيامه تجوالاً ومغامرة، ومنهم من التزم الحذر، ومنهم من أدمن المخاطرة بنفسه، وتجدهم بين مستقل ومجنّد، ومنصف ومتحامل، وصنوف كثيرة أخر.

و”بالمر” الذي نعرض لسيرته في هذه المقالة؛ رجل فريد، لمهاراته العديدة، ومغامراته الكثيرة، ولاتساع المجالات التي جال فيها، وتنوع مخرجاته وآثاره.

عام ١٨٤٠ للميلاد، في مدينة كامبردج، ولد إدوارد هنري بالمر، وعاش طفولة عادية، ومراهقةً ظهر فيها ولعه بتعلم اللغات، وذكاؤه في اقتباسها.

وحين بلغ العشرين من عمره؛ تعرف إلى موظف هندي قادم لغرض التدريس في جامعة كامبردج، يدعى “سيد عبدالله”، فلازمه، وأخذ يتعلم منه اللغتين: الهندية والأوردية، وجدّ في التعلم حتى صار له معلم مختص بكل واحدة من هاتين اللغتين، كما أنه شرع في تعلم اللغة العربية على يد رجل سوري نصراني يدعى “رزق الله حسون”.

بلغ بالمر من إتقان اللغات التي تعلمها حداً جعله يقتات من ورائها، فصار يدرّس اللغة العربية، ويعمل في فهرسة المخطوطات الموجودة في بعض مكتبات بريطانيا، باللغتين العربية والفارسية، وترجم كتاباً من الفارسية إلى الإنغليزية في تلك الفترة من حياته، ولم يكتف بهذا، بل عمل مراسلاً صحفياً لجريدتين هنديتين، يرسل إليهما مواده الصحفية باللغة الأوردية!

في السابعة والعشرين من عمره، تتاح الفرصة أمام بالمر ليشارك في مهمة بحثية استشراقية في سيناء وفلسطين، برفقة شخصيات مرموقة في الحكومة الإنجليزية، كان بالمر يعمل مترجماً وباحثاً وجامعاً للنقوش ضمن بعثة تقوم بأعمال المسح الجغرافي في مشروع لتتبع رحلات بني إسرائيل في مصر وسيناء والأرض المباركة فلسطين.

ذهبت البعثة إلى مكانها، وأتيح لبالمر أن يتعامل بشكل مباشر مع العرب في تلك النواحي من سيناء وفلسطين. هناك في صحراء سيناء تبدأ قصة مثيرة تشكل خيطاً أساسيا في حياة بالمر حتى موته كما سنعرف بعد قليل.

عادت البعثة إلى بريطانيا، ولكن بالمر لم يمكث إلا قليلاً قبل أن يقرر العودة إلى المشرق في عام ١٨٧٠  وقد أتم ثلاثين عاماً من حياته.

وفي بلاد فلسطين، أخذ بالمر -مع صديق له- يستكشف ويسافر، ويبحث وينقب، وقام بزيارة لبنان، ثم دمشق، حيث لقي بها المستشرق بورتون، الذي سبق تناوله في مقالة سابقة، والذي كان وقتها قنصلاً لبريطانيا في سوريا.

وبعد جولات في سوريا سافر بالمر إلى إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، ووثق رحلته تلك في كتاب ضخم.

عاد بالمر من رحلته تلك إلي مدينته كامبردج ليشتغل بتدريس اللغة العربية في الجامعة، وليصدر الكثير من الإصدارات العلمية القيمة، التي أظهرت تمكنه من اللغات الشرقية، ورشاقة قلمه باللغة الإنغليزية، وجلده غير العادي على البحث، وذكاءه في التقاط أفكار عناوينه.

وقد كان من بين مؤلفاته: “أورشليم مدينة هيرود وصلاح الدين”، و”موجز جغرافيا الكتاب المقدس”، و”تاريخ الأمة اليهودية”، و”قاموس موجز للغة الفارسية”، و”ترجمة ديوان البهاء زهير”، كما أنه كتب ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلي الإنغليزية، كان لها صيت ذائع في إنغلترا، وكتب كتباً أخرى، مثل: “النحو المبسط للغات الهندية والفارسية والعربية”.

ومن الطريف الذي يستحق الذكر، أن بالمر شعر بالحاجة إلى عمل جانبي يدر عليه دخلاً إضافياً، فقرر أن يشتغل في الصحافة، كي يعوض ضآلة مرتبه كأستاذ جامعي.

في عام ١٨٨٢، وفي الثانية والأربعين من عمره، يستدعى بالمر من قبل حكومته ليعمل في مهمة استعمارية قبيحة، هي: تحييد أهالي سيناء تجاه الغزو البريطاني القادم لمصر، واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل حماية قناة السويس من التدمير على يد أحمد عرابي ورفاقه الثوار.

تلقى بالمر هذه المهمة بالقبول، وسافر إلى الإسكندرية، ثم إلى غزة ليلتقي هناك بالقنصل البريطاني الذي جمعه بواحد من الخونة من شيوخ القبائل.

وبزي عربي كامل، يمتطي بالمر جملاً، ويقطع الطريق من غزة إلى السويس، حيث أخذ يفاوض زعماء القبائل، ويشتري ما تيسر من الجمال التي يحتاجها الجيش البريطاني في مهمة احتلاله لمصر.

ويبدو أن بالمر عرف من أين تؤكل الكتف، وكان له من الذكاء في فهم نفسيات أولئك الزعماء القبليين ما مكّنه من إحراز كثير من التقدم في مهمته، إلى حد أنه أرسل إلى السلطات البريطانية يعلمها بقدرته على شراء ذمم خمسين ألف رجلاً من بدو سيناء، مقابل مبلغ لا يتجاوز ثلاثين ألف جنيه.

أما مشهد النهاية الذي انتهى به مشوار بالمر في هذه الحياة الدنيا فقد كان شديد الفظاعة، إذ كان يسير مع أربعة من رفاقه في الصحراء، حين نصب بعض البدو كميناً محكماً للقافلة الصغيرة، وأسروهم دون مقاومة تذكر، وحملوهم إلى وادي سُدر ذي المهاوي البعيدة، وقتلوهم ثم ألقوا بجثثهم إلى باطن الوادي، وذلك في أغسطس من عام ١٨٨٢.

ومات بالمر، وعاش بعده شيئان: نتاجه العلمي الجدير بالثناء، ومسبة العمل ضمن الاحتلال، وهي مسبةٌ جديرة بالهجاء!