قال تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين . أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) الأحقاف : 15 – 16 .

يوصي الله بطاعة الوالدين وبرهما لا سيما الأم التي تجرعت عناء الحمل والوضع والتربية ما كلفها الجهد و التعب، حتى إذا ما بلغ مولودهم سن الرشد والحكمة وقوي وارتجل وكان متناهي العقل والفهم تقيا نقيا، دعا الله مخلصا صادقا وقد هداه الله سبيله: أن يلهمه شكر نعمه التي أسبغها عليه و على والديه، وأن يوفقه للعمل الصالح ويصلح ذريته ونسله. أمثال هؤلاء الصادقين القدوات يتقبلهم الله في عباده المخلصين ويدخلهم الجنان التي وعدهم ..

والملاحظ هنا: أن قوله تعالى (وأصلح لي في ذريتي) جاء على غير المعروف من عادة العرب وظاهر لغتهم، إذ الأصل – في العرف اللغوي – أن يقال (أصلح لي ذريتي) دون استعمال (في) التي للظرفية،، كما جاء قوله تعالى في حق زكريا – عليه السلام – (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه). الأنبياء : 90 .

وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) الأحزاب :70 – 71

فما الحكمة من إدخال حرف (في) هنا واستعمالها في هذا السياق؟!

وأي قيمة مضافة لها هنا في الآية ؟!

والحقيقة أن حرف (في) أدى رسالة عظيمة عميقة عريقة، وأشار إلى بعد بلاغي جزل، ولفتة إيمانية تربوية دعوية قمة في الروعة، فلو قال الحق سبحانه (أصلح لي ذريتي) لكان المقصود: صلاح النسل والعقب فحسب دون إضافة معنى آخر، فكأن قصد الداعي وهمه هنا ذريته لا غير.
لكن مجيء حرف (في) خلق أفقا كبيرا وبعدا ضخما، فإن قصد هذا التقي العاقل الحذق: أن يجعل الله سبحانه ذريته ونسله بمثابة القالب و الوعاء وبيئة للصلاح والتقوى، ناهيك عن كونهم صالحين في أنفسهم !!

وحتى تتضح الصورة، لو قلت (زيد في البيت) فإن هذا يفيد كون البيت ظرفا له ومحيطا به وهو كوعاء يحويه.. هكذا الأصل في وضع حرف (في) .

طبق هذا على الآية: فضع الذرية التي في الآية موضع البيت في المثال (زيد في البيت)، والناس جميعا المراد لهم الهداية موضع زيد. فكأنه يطلب من الله أن يكون نسله التربة الخصبة والمكان الحاوي والمستقر لصلاح الناس في فترتهم وبيئتهم ومجتمعهم، وأن يكونوا مادة الصلاح وعنوانها وماءها العذب الصافي، وأن يكونوا راسخين في الصلاح متمكنين منه بحيث يستطيعوا نقله للآخرين ودعوتهم إليه والتأثير فيهم. لا أن يكونوا صالحين في أنفسهم فحسب.

أرأيتم هذا ؟! إنها البلاغة بعينها والإعجاز المفحم. إنها رسالة الحرف في لغة الضاد وفي كلام الله !!
“فإن قلت: ما معنى (في) في قوله: و أصلح لي في ذريتي؟ قلت: معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم “. الكشاف للزمخشري .

إنها إشارة قيمة للآباء والأمهات والمستقيمين على منهج الحق، إن أرادوا الدعاء لأبنائهم وذرياتهم، أن يقتدوا بهذا الداعي ويحذوا حذوه، فلا يكتفوا بالدعاء لصلاح أبنائهم، و أن لا يعدوهم ويربوهم للهداية فحسب، وإنما للقيادة فيها والريادة في الاستقامة، وأن يصبحوا أئمة وأعلاما في ذلك، فهو يشبه قوله تعالى في شأن عباد الرحمن (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان : 74. قال السيوطي في هذه الآية: فيه الدعاء بصلاح الزوجات والأولاد والذرية وطلب الإمامة في الخير، وفيه دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب. الإكليل في استنباط التنزيل