رغم أن الجدل حول اقتصاد السوق كمذهب اقتصادي لم وربما لن يحسم، فإنه لا يكاد يختلف اثنان على دور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية، وهو دور بات يتعاظم كل يوم، ويفرض وجوده سواء تم ذلك من خلال ميلاد ونمو طبيعي لهذا القطاع، أو تم من خلال ولادة قيصرية وعملية تحكمية أدت في كثير من بلدان العالم الثالث إلى تجربة ليبرالية متوحشة تزاوج فيها المال مع السلطة، وأنتجا حالة سياسية واجتماعية متخلفة، كما أدت إلى أن الاستفادة من النمو الذي حققه القطاع الخاص ظل حكرا على ثلة قليلة من الناس.

لن نستطرد في شرح تلك الحالة، إنما نريد أن نلقي الضوء على شروط تشكل القطاع الخاص من خلال مناقشة منظومة الحوافز الجالبة للاستثمار، والتي اصطلح على تسميتها بمناخ الاستثمار، سواء تعلق الأمر بالمقاولات المحلية أو بالاستثمارات الأجنبية المباشرة، حتى نتبين المصلح من المفسد والصحيح من السقيم..

مناخ الاستثمار .. الكليات والإجراءات

لا يكاد مفهوم يختزل مختلف جوانب الاقتصاد كالاستثمار، وذلك لأنه المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي، فهو الذي يحقق التراكم الرأسمالي وينتج القيمة المضافة، ويرفع الإنتاجية، وللحصول على نشاط استثماري واسع يتحدث الاقتصاديون عن مناخ الاستثمار الذي يتحقق من خلال مجموعة من الشروط التي لا يمكن تصور إقبالٌ من الاستثمار المحلي والأجنبي على بلد من البلدان في غيابها..لأنها تشكل الظرف الذي تنمو فيه الاستثمارات وتتطور المقاولات.. بالإضافة إلى جملة من السياسات الخادمة والحوافز المعضدة ..

وتتشكل الشروط أو المقومات المكونة لمناخ الاستثمار من توجه مذهبي يقطع مع المركزية الاقتصادية ويضمن الحرية الاقتصادية في التملك، ويسمح أو يرعى نظاما حرا للأسواق تتحقق من خلاله مستويات من المنافسة.. ومن البنية التحتية اللازمة للاستثمار من طرق وموانئ ومطارات واتصالات وغيرها، حيث يعتبر التوفر والكلفة أحد معايير ومحددات إقبال المستثمرين، كما تشمل هذه الشروط توفر العمالة الماهرة والمدربة التي يفرزها نظام تعليمي وتكويني عصري، وقبل هذا وذاك حصول الاستقرار والأمن وسيادة القانون والحكامة الرشيدة واستقلال القضاء، حيث يضمن ذلك تكافؤ الفرص والشفافية وغياب الفساد الإداري والمالي وتحقيق العدل والتنظيم القانوني للسوق.

وتعضد هذه الكليات جملة من السياسات التي تتمثل عادة في القوانين والتشريعات الممكنة للتوجهات المذكورة أعلاه والخادمة لها، لا المنبتة عنها، وإنشاء الأطر الإدارية التي تضمن الفعالية الإدارية وتقضي على الروتين في الإجراءات الحكومية لإنشاء وتأسيس وتحويل ملكية المشروعات، كما أن من بين هذه المكملات وضع نظام حوافز ضريبي يغري المستثمرين من خلال الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الجمركية المختلفة..

وينص التقرير السنوي لتسهيل ممارسة الأعمال على عشرة إجراءات هي: بدْء النشاط التجاري واستخراج تراخيص البناء وتوصيل الكهرباء وحماية المستثمرين الأقلية وتسجيل الملكية والحصول على الإئتمان ودفع الضرائب والتجارة عبر الحدود وإنفاذ العقود وتسوية حالات الإعسار، وعلى الرغم من أن بعض هذه الإجراءات قد تشكل أداة قياس لبعض مقومات وشروط مناخ الاستثمار كعلاقة حماية المستثمرين الأقلية بالعدالة أو بتكافؤ الفرص، إلا أن أغلبها هو إجراءات إدارية شكلية يمكن تلبيسها لأي مناخ استثمار ضعيف من حيث المقومات والشروط، ولا أدل على ذلك من النص في أحد تقارير مجموعة البنك الدولي[1] على أن معدل كثافة دخول الشركات الجديدة إلى السوق في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو أقل المعدلات في العالم رغم حديث التقرير نفسه عن التحسينات والإصلاحات المطردة في بيئة الأعمال في هذه البلدان، مما يدلل على الطبيعة “الاحتكارية” للسوق، وصعوبة الولوج إليها.

  مناخ استثماري مزور

رغم هذه المعطيات والحقائق تحرص جملة من البلدان، وفي مقدمتها بلداننا العربية، على البدء بالفصل الأخير من الكتاب، فتتبارى في إنشاء مدونات ضخمة (قوانين) للاستثمار وتحرص على تعديل فصلي لقوانينها المتعلقة بالتسهيلات الضريبية والتعريفات الجمركية، كما تقوم بمنح حوافز وإبرام اتفاقات سخية لمنح استغلال مفرط للثروات الباطنية، ثم يعمد بعضها إلى خطوات أخرى أكثر جرأة حتى لا نقول وقاحة، فتعلن عن المناطق الحرة التي تتضمن منظومة حوافز خصوصية في بيئة من التخلف وانعدام المواصلات وضعف الكهرباء وتهالك الطرق وسيادة اللوبيات المحلية وغياب الإصلاحات المؤسسية العميقة ، وتسمى ذلك قطبا تنمويا واعداً..

ومن المؤسف أن البنك الدولي يقوم بعملية قياس دورية لهذه البيئة في تقريره السنوي ” تقرير ممارسة أنشطة الأعمال” فيعمد إلى ترتيب الدول وفق جملة من الإجراءات والإصلاحات الإدارية الشكلية التي لا تمس جوهر الحكم الرشيد ولا تضمن بالضرورة الشفافية، خصوصا إذا استحضرنا التركيبة البنيوية للنظام السياسي الاجتماعي القائم على تماه بين الدولة والقطاع الخاص في شراكة غير مقدسة تضمن الحكومات من خلالها تمويل آلية الانتخابات في البلدان التي تمارس (العملية) الديمقراطية، وتعزز حكومات أخرى من خلالها الشرعية التاريخية.

إن الجمع بين وضعية جيدة فيما يتعلق بالإجراءات الحكومية المسهلة لإنشاء وممارسة الأعمال، وبين مؤسسات قانونية هشة وغير مستقلة وضعف في الحوكمة لا يضمن الشفافية للمتنافسين ليس سوى عملية تجميلية تسعى لخلق بيئة أعمال كاذبة خاطئة، وهي وضعية  لن تجلب إلا أسوأ المستثمرين.. وستفوت على البلدان العربية فرصة بناء قطاع خاص ذي قاعدة عريضة يمكن من قطف ثمار النمو من طرف الغالبية من السكان، غير ذلك تزوير للواقع، الواقع الذي يتخلق بعيدا عن مراصد الهيئات الدولية وعن بيانات وزراء الاقتصاد المنمقة، الواقع الذي يفاجئ البلدان بالهزات الخطيرة حين تعجز الغالبية من الناس عن تحمل كلفة المنظومة الاقتصادية القائمة على الغُبن والحرمان.


1 ـ تقرير ممارسة أنشطة الأعمال في العالم العربي، 2012