إنه زمنُ الفوضى والإلتباس بين الأدوار والتخصصات حيث اختلط الأمر على الكثيرين في عدم التمييز بين العالم والفقيه وبين الواعظ، ما تسبّب في إحداث فوضى فكرية واجتماعية أربكت ليس فقط عامّة الناس وإنما النُخبة أيضاً من إعلاميين ومثقفين بحيث أصبح التمييز صعب للغاية  بين: من هم مخوّلين إصدار الفتاوى والعالمين في أصول الشريعة، وبين من هُم مُجرّد واعظين ممّن ينصحون ويُذكّرون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر.

نظرة سريعة على الواقع تُبيّن لنا أن مكوّنات المجتمعات العربية بكل أطيافها تغرق في هذه الفوضى، ما أدى إلى ظهور شريحة واسعة تقدّس الأشخاص أكثر من تقديسها للأفكار، حيث أصبح الواعظ مرجعاً يلجأ إليه الناس للبحث عن الفتاوى ولإيجاد الأجوبة على أسئلة تتطلب درجة عالية من العلم ومن الإجتهاد.

وبدلاً من توجيه العامّة إلى أهل الإختصاص  يتم مُصادرة دور العُلماء والفقهاء سواء عن قصد أو عن غير قصد، وهذا ما ساهم في تعزيز انتشار الأفكار المغلوطة عن الإسلام ، كما كان سبباً من أسباب تشويه رسالة الإسلام .

لقد اعتمد الإسلام على مبدأ التخصص في الأعمال والمهام، والمجتمعات لا تتطوّر ولا تنهض إلا  إذا احتكمت إلى مبدأ التخصص وتقسيم الأعمال بحيث توزع المهام والمسؤوليات كلّ بحسب إختصاصه، والإختصاص لا يأتي بالوراثة، ولا بمنحة من السلطان، ولا بمرسوم من وليّ الأمر، ولا بالظهور على وسيلة إعلامية هنا وهناك.. بل يأتي بالعِلم وبالجهد وفق معايير علمية مُنظمة ووحدات قياسية وأدوات تحققّ من الإمكانيات والجدارات مُتفق عليها.

ولتقريب الصورة أكثر نجد أن المجتمعات المتقدّمة تستعين بشركات إستشارية عالمية للتدقيق وللتحقيق في شهادات المهندسين، والأطباء، والقانونيين، وذلك للتأكد من مدى استحقاق هؤلاء لشهاداتهم، رغم نجاحهم باختبارات لا تُعدّ ولا تُحصى..والهدف من ذلك هو الحرص على سلامة الفرد والمجتمعات.

كذلك أصحاب تخصصات علوم القرآن الكريم والسُنّة النبوية، يحتاجون إلى تدقيق من جهات متخصصة وفق معايير علمية، وهنا نذكر ماقاله الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في هذا الشأن :” إن القرآن الكريم والسُنّة النبوية تعرّضا لشؤون نفسية وكونية ولمسائل اجتماعية وتشريعية يتطلب الخوض فيها طاقة ذهنية عالية إلى جانب الاستعداد الروحي العتيد، فكيف يصل إلى فقه ناضج في دين الله إمرؤ محدود الفكر، ومختل التصوّر ؟ “.

لا أحد مِنّا يَنكر الدور الجلّي الذي يؤديه البعض اجتهادا ، ولا أحد يقف بوجه الباحثين والمحبين للعلم، لكن ربط الأدوار الدينية التخصصية بأشخاص لا يمتلكون العمق المعرفي والأدوات الفكرية أصبح يُسيء إلى مفاهيم ديننا الكريم.