يتربَّع السيد أحمد خان (1233- 1316هـ/ 1817- 1898م) على عرش التَّيار التَّحديثيِّ في شبه القارة الهندية، فقد ولد وترعْرع في ظلِّ أسرة أرستقراطية تمتاز بأصولها العريقة منذ أن رحل أجداده الأوائل من بلاد الغرب إلى مدينة “هُراة”، ثمَّ منها إلى العاصمة “دلهي” إبَّان عهد الملك “أكبر شاه”. لكنه على عكس أسرته التي كانت تتحرَّج كثيرا من إبداء صلتها بالإنجليز، التحق بخدمة الحكومة أمينا للسِّجلات في القلم الجنائيِّ بمدينة دلهي، ثمَّ سرعان ما عُيِّن مُنْصِفًا؛ أي قاضيًا مدنيَّا، في مقاطعة “فاتح بور” الواقعة ضمن إقليم “أكرا”؛ لينتقل بعد ذلك بنفس مسمَّاه الوظيفيِّ إلى مدينة “بنجور” قُبيل وقوع الثورة الهندية بقليل سنة 1274هـ/ 1857م.

وقد قُوبلتْ آراء السَّيد خان بموجة اعتراض شديد من قِبَل الأوساط الجهادية؛ خاصَّة وأن أعداد المسلمين في الهند وقتها كان قد جاوز السَّبعين مليونا؛ فإذا بأغلبهم يعيشون في حالة من الجهل والفقر وبؤس العيش، وحتَّى من تعلَّم منهم فإنّه لم يتجاوز تعليمه الإطار التقليديَّ (التعليم الدِّيني).

في المقابل من ذلك، رأى السَّيد خان أنَّ أغلبية الشَّعب خاضعٌ لسُلطة رجال الدِّين الذين لا يفهمون من الإسلام إلا رَسْمَه، ويرون أنَّ المدنية الحديثة – بعلمها، ونظُمها، ووسائلها، ومقاصدها- ليست إلا مدنِيَةُ كُفْرٍ لا يصحُّ للمسلم أن يستمدَّ منها، ولا أن يتعاون مع أهلها، وأنّهم إذا فتحوا صدورهم لها أحاطت عقائدهم ونالت منها.

وتبعا لرأيه المتعلِّق بضـرورة البدء بإصلاح العقول أولا من خلال التَّثقيف والتَّهذيب؛ يبدو أنه بذلك أقرب شبهًا بالأستاذ الإمام محمَّد عبده بعد مفارقته أستاذه جمال الدِّين الأفغانيّ وعودته إلى الوطن من منفاه. فكلاهما يؤمن:

أنه لا وجود لاستقلالٍ مع الجهل وسيادة الخرافة.

وأنَّ عماد الدَّولة الحرَّة الأبيَّة إنَّما يقوم على العلم بالدِّين والدُّنيا معًا.

وأنَّ الإسلام – إذا ما تمَّ فهْمُه على حقيقته – ليس فيه ما يمنعُ الإنسانَ من أن يصل إلى أعلى الدَّرجات في العلوم ونُظُمِ الدُّنيا إلى غايتها؛ بل على العكس تماما فإنَّ في الإسلام ما يُشجِّع على التدبُّر في آيات اللَّه وملكوته.

جانب آخر يشترك فيه المجدِّدان – محمَّد عبده وأحمد خان- ألا وهو: الجانب الواقعيُّ في قراءة المشهد السِّياسيِّ لكلا البلدين – مصر والهند – على ضوء الحاصل فعلا، وليس بهديٍ من بواعث الأمل أو التَّمنِّي. فقد أقرَّ كلاهما بأنَّ مردَّ السُّلطة في بلديهما إلى الإنجليز وحدهم، وأنَّ هؤلاء يملكون ناصيةَ الأمور من ناحية العتاد والقوَّة وإحكام السَّيطرة على البلاد، وهو ما ليس بإمكان البلديْن مواجهته أو مقاومته مرحليا.

لكنهما إلى ذلك قد أقرا بأنَّ اتّحاد قوى الشَّعب من خلال “المقاومة” كفيلٌ بردع ودحْر القوات الإنجليزية. وبقي التَّساؤل الذي قفز أمامهما إزاءَ هذا الافتراض قائما؛ ألا وهو: كيف يكون اتحادهم مع واقع جهلهم وضعْف خلُقِهم؟! أضف إلى ذلك فساد أمرائِهم؟! وعند هذا الحدِّ من المقاربة تأكَّد للمجدِّدَيْن أن لا مناص من البدء بتثقيف الشَّعب أولًا، وحتَّى يتمَّ ذلك، فإنَّه يتوجَّب على النُّخبة الثقافية والسِّياسية أن تجلس إلى مائدة المفاوضات مع الإنجليز في كلا البلدين؛ من أجل الاستفادة بأكبر قدر ممكن من المكاسب، وصولا إلى الحصول على الاستقلال التام.

ومن النواحي الأخرى التي اشترك فيها الإمامان؛ أنَّ كلاهما قد ناله من الاتهامات بسبب آرائه الشـيء الكثير. ولعلَّ ذلك ما يفسِّر سببَ رحيل السيد خان إلى أوربا عقب انتهاء الثورة الهندية مباشرة؛ ليسجِّل إعجابه بالتَّيارات الفكرية الأوربية آنذاك في كتابه “سفر نامه”؛ وممَّا جاء فيه: “إنَّ الذين يريدون إصلاح الهند الحقيقيّ يجب أن يجعلوا نُصْب أعينهم نقلَ العلوم والفنون والآداب الأوربية إلى لغة البلاد الأصلية. إنَّ تقدُّم الغربيين إنَّما جاء من أنَّهم عالجوا الآداب والعلوم بلغتهم، ولو كانت العلوم والفنون تُعَلَّم في إنجلترا باللغة اللاتينية أو اليونانية أو العربية أو الفارسية لظلُّوا جاهلين جهْل الهند، فما لم نهْضِم العلومَ والفنون ونتمثَّلُها بلغتنا فسنظل في حالتنا السيئة هذه”.

لكنه في المقابل، صُدِم كثيرا إزاء جهل الأوربين بالإسلام ونبيه ، فكتب بدافع هذه التَّجربة، وهو في إنجلترا، كتابا بعنوان “خطبة أحمد”، تحدَّث فيه عن سيرة النَّبي وفكره، مُدلِّلًا على ذلك بالأحاديث النبوية. وعندما عاد من رحلته تلك سارع بإنشاء “الجمعية الإسلامية العلمية”، ثمَّ أسَّس لاحقا – خلال العام 1860م- “كلية عليكرة الإنجليزية الإسلامية”، التي أصبحت فيما بعد “جامعة عليكرة الإسلامية”.

وفي الأحوال كلِّها؛ فإنَّ من شأن الآراء التي قال بها الإمامان – محمَّد عبده وأحمد خان- أن تجرَّ عليهما ويلاتٍ لا قِبَل لهما بها. فقد كان لزاما على من يعْتنق أو يُبشِّر بتلك الآراء أن يُحارَِب على جبهاتٍ ثلاثة في وقت واحد:

الجبهة الأولى: تتمثَّل في رجال الدِّين الذين يرون في الدَّعوة لاقتباس العلوم الحديثة مَفْسَدَةٌ تضـرُّ بالدِّين، وأنَّ القول بقيام كلِّ شيء على السَّببية كفرٌ بالقضاء والقدر، إلى جانب القول بزندقة من يُنْكر على المشايخ والأولياء سُلْطتهم الرُّوحيَّة.

الجبهة الثانية: تتمثَّل في دُعاة الاستقلال والوطنية؛ وهؤلاء يرون في الدَّعوة لمهادنة الإنجليز خيانةً للقضية الوطنية، وأنه لا تفاوُض ولا مُسالمة إلَّا بعد الجلاء التَّام، ويتَّهمون كلَّ من يطلب دون ذلك بالعمالة والخيانة؛ خاصَّة إذا انضوى تحت لواء الحكومات “اللاشرعية”، وترقَّى ضمن وظائف الدولة المحتلة.

الجبهة الثالثة: تتمثَّل في قوى الاستعمار، وهؤلاء سرعان ما يضيقون ذرعًا بمطالب المصلحين فيعمدون إلى نفيهم خارج البلاد، أو مُصادرة كتبهم سعيا وارء الحدِّ من نفوذهم، وخوفا من توسُّع دائرة سلطاتهم.

وأخيرا فإنَّ كلا المجدِّدَيْن قد ربط في دعوته التَّحديثية ما بين تقدُّم الأمم من جهة، ومستوى رُقيّها الأخلاقيِّ من جهة أخرى؛ وهو ما عبَّر عنه السَّيد أحمد خان بالقول: “انظروا إلى انجلترا، لقد كانتْ ثروتها تتمشَّى يومًا فيومًا مع تربيتها، فكلما زادت تربيتُها زادت ثروتها، وقد كانت منذ قرون وأمامها من العقبات والصِّعاب التي تعوق التَّربية أكثر ممَّا عندنا. ولو أنَّ الهند سنة 1856 كانت تعرف العالَم وتعرف قوَّتها وقوَّة خصمها من الإنجليز، وتزن الأمور بميزان صحيحٍ وتُدْرِكُ نتائجَ الأمور؛ ما حدثت الحوادث الأليمة التي حدثت سنة 1858، إلَّا أنَّ الجهل سببٌ لكلِّ شرٍ”.