مما شاع في بعض الدول الإسلامية الاتفاق بين الإمام والمؤذن على عدم التواجد معا في صلاة الجماعة نفسها، بل يقسمان الصلوات فيما بينهما، فيتواجد الإمام في بعض الصلوات ويتخلف المؤذن، ويتواجد المؤذن في الصلوات الأخرى ويتخلف الإمام، وقد يكون هذا بعلم الإدارة المسؤولية أو بغير علمها.

كما قد يكون للمسجد الواحد إمامان ومؤذن أو إمامان ومؤذنان، أو إمام واحد ومؤذنان، فيتفق الإمامان مع بعضهما، أو المؤذنان مع بعضهما، أو الإمامان مع المؤذنين.

والحكم الشرعي في هذه الظاهرة ما يلي:

أولا- الأصل أنه لا يجوز تخلف الإمام أو المأموم عن الصلوات الخمس في المسجد بشكل منتظم، إلا في الإجازة الممنوحة لهم من قبل الوزارة وفق اللوائح والنظم المتبعة، أو الأوقات التي تسمح لهم الوزارة بالتخلف عنها، أو حصولهم على إذن كتابي للتخلف عن بعض الصلوات بانتظام، كتخلفهم – مثلا- عن صلاة الظهر جماعة في المسجد، وذلك لما يلي:

أن هذا هو مقتضى عقد الإمامة والأذان، والواجب الوفاء بكل عقد اتفق عليه حسب الوصف الوظيفي المتفق عليه والموقع عليه بين الطرف الأول الذي هو وزارة الأوقاف أو الشؤون الإسلامية أو الجهة المسؤولة عن ذلك في كل بلد، والطرف الثاني الذي هو الإمام أو المأموم، وقد قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] ،

قال الألوسي في (تفسير روح المعاني 6 / 48) في تفسير قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} “: المراد بها يعم جميع ما ألزم الله عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به.

 ومن ذلك قوله تعالى: ﴿‌وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: 152] ، وقوله سبحانه: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ ‌أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152] ، وقوله سبحانه: ﴿‌وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91]، وقوله سبحانه: ﴿‌وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ ‌يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد: 19-20]، وقد جعل الله تعالى الوفاء من صفات المؤمنين الصالحين، فقال: ﴿وَمَنْ ‌أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10] ، والأئمة والمؤذنون قدوات للناس، واجب عليهم الوفاء بما عليهم من الالتزامات، و قد امتدح الله نبيه إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى﴾ [النجم: 37].

كما أن أداء الإمام لإمامته، والمؤذن للأذان من الأمانات الواجب أداؤها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا ‌الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]،

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/673): “يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله عز وجل على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاعِ بينةٍ على ذلك. فأمر الله عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة” انتهى .

والدولة والمسلمون قد ائتمنوا الأئمة والمؤذنين على القيام بشأن الصلاة، كل حسب تخصصه.

ثانيا- أن عمل الإمام والمؤذن يقع ضمن ما يعرف في الفقه بـ” الأجير الخاص“، وقد عرفته «الموسوعة الفقهية الكويتية» (1/ 288-289) بالقول:

«‌الأجير ‌الخاص: هو من يعمل لمعين عملا مؤقتا، ويكون عقده لمدة. ويستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة؛ لأن منافعه صارت مستحقة لمن استأجره في مدة العقد.. ويجوز أن يكون رب العمل جماعة في حكم شخص واحد (مؤسسة) فلو استأجر أهل قرية معلما أو إماما أو مؤذنا، وكان خاصا بهم كان أجيرا خاصا.. ويجب على الأجير الخاص أن يقوم بالعمل في الوقت المحدد له أو المتعارف عليه».

ثالثا- أنه يجوز للإمام والمؤذن التخلف عن إحدى الصلوات لضرورة وحاجة لا يمكن قضاؤها إلا بتخلفه عن صلاة الجماعة في مسجده؛ بشرط إذن المسؤولين عنه، ووجود من يقوم مقامه،  على ألا يكون بشكل منتظم، لأن التخلف الدائم نقض للعقد والعهد، وهذا لا يملكه مسؤول؛ فهو يخالف حقيقة العقد، ولا ينقلب الاستثناء أصلا، وإلا عاد على الأصل بالبطلان، وقد تقرر في القواعد الفقهية: «كل تكملة تعود ‌على ‌الأصل ‌بالبطلان؛ فهي باطلة» راجع: «الموافقات» (6/ 450)،  و«إذا كان الفرع يعود ‌على ‌الأصل ‌بالبطلان كان الفرع باطلاً» « راجع: شرح بلوغ المرام لعطية سالم» (4/ 4)

رابعا– أن من المعلوم أن عمل الإمام والمؤذن لا يستغرق اليوم كله، بل يستغرق أقل من ثلاث ساعات أو أقل في اليوم، وعند الإمام والمؤذن فسحة من الوقت يقضيان فيها ما يشاءان من الحاجات الدنيوية وغيرها.

وإذا أراد الإمام أو المؤذن سعة من الوقت، وكان عنده من المبررات ما يرى أنه بحاجة إلى استئذان صلاة – كالظهر مثلا- حتى يطول وقت يقضي فيه ما يشاء من المصالح المشروعة، فعليه أن يتوجه إلى إدارته بطلب رسمي؛ فإن أقرته إلى ذلك؛ كان مباحا، فيكون لديه من الصباح حتى الصبر وقت فراغه، بالإضافة إلى الأوقات في غير الصلوات، يفعل فيها ما يشاء.

خامسا– أن الواجب على الإمام والمؤذن أن يكونا قدوة للمسلمين في التزام الصلوات جماعة في المسجد، وإذا كان هذا مطلوبا شرعا من عوام المسلمين؛ فهو في حق الإمام والمؤذن أوجب، وإقامة الصلوات ورفع الأذان من مقاصد الشريعة المقصودة لذاتها، وما كان وسيلة لمشروع كان مشروعا، ولما ندبت الدولة بعض الأئمة والمؤذنين للقيام بتلك الشعائر كان أداؤهم وقيامها بها من الواجبات الشرعية التي يأثم تركها في حقهما، ويعظم الإيجاب في حقهما أكثر من غيرهما.

سادسا– أنه إذا كان في المسجد الواحد أكثر من إمام، أو أكثر من مؤذن، فالأصل -أيضا- في حقهم- التزام الصلوات جماعة في مساجدهم التي عينوا فيها، وإن كان من تنسيق بينهم؛ فيجب أن يكون بإذن رسمي من الإدارة، وهذا من المصالح المرسلة التي يرجع فيها لولاة الأمور في هذا.

وعليه.. فلا يجوز الاتفاق بين الإمام والمؤذن على تقسيم حضور الصلوات بينهما، وأن التخلف يجوز إما بالإجازة الممنوحة، أو الإذن الممنوح حسب اللوائح، أو لضرورة أو حاجة بما لا يضر بالقيام بالشعائر بشرط ألا يكون بشكل دائم، حتى لو كان بإذن من الإدارة.