حين نتحدث عن المجتمعات العربية والإسلامية فينبغي أن يكون النموذج المعرفي الذي ينطلق منه الإصلاح متصلا بهوية هذه المجتمعات وثقافتها المشتركة، ومنفصلا عن كل ما يتصادم مع تلك الهوية الثقافية المكونة لوعيها ووجدانها، وإلا فستنبذ كل الدعوات المصطدمة مع تلك الهوية، بدلا من أن تتقبلها.

وعندما نتكلم عن الهوية الثقافية لهذه المجتمعات العربية والإسلامية فإن من البديهي أن نتحدث عن “الإسلام” الذي تدين به الغالبية العظمى من أفرادها، وهو المكون الرئيس لهوية تلك المجتمعات، والميزان الذي توزن به القيم والمبادئ التي تؤمن بها، وتتحدد بناء عليها أولوياتها الأساسية، وتمثل الأصول المرجوع إليها في تحديد علاقاتها فيما بينها ومع الآخرين، وبالتالي فالإسلام هو المحدد لأهداف الإصلاح المنشود وضوابطه ومن ثم يحدد مهام المصلحين وما عليهم أن يتجنبوه في سعيهم إلى الإصلاح.

لقد بنى المسلمون حضارتهم العريقة التي هيمنت على العالم ما يزيد على عشرة قرون استنادًا إلى الإسلام الذي كان يمثل الحافز الأكبر لهم على العمل والإنجاز الحضاري وهي حقيقة لا يمكن أن ينكرها منصف، فتكفي نظرة واحدة على تاريخ العرب -وغيرهم- قبل بعثة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وبعدها للدلالة على مدى الإصلاح الذي جرى لأحوال العرب بالإسلام حتى قادوا العالم قيميًا وعلميًا وعسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في أسرع وقت شهدته البشرية قاطبة.

ولكن على الرغم من تلك الحقيقة الناصعة فإن الظن الغالب الآن أن كثيرين باتوا يتوجسون خيفة من كل من يطرح هذا الأمر متذكرين من خيبوا ظنونهم رغم أنهم كانوا يرفعون شعارات إسلامية تعد بالفردوس الأرضي قبل الأخروي، فإذا بهم لا يختلفون كثيرا عن سابقيهم أو لا يمتلكون الخبرة ولا الكفاية اللتين تؤهلهم لتحمل مسؤولية قيادة الأوطان نحو الخروج من مستنقعات الاستبداد والجهل والتبعية والتخلف والأمراض.

والحقيقة أن فشل أحد الاجتهادات التي سعت إلى تنزيل أحكام الإسلام بحسب فهمها وتصورها، أو من رفعوها شعارًا أو أخطأوا في فهمها أو في تنزيلها، ليس من العدل أن يُحمَّل الدين أوزاره، وإلا فإننا يمكن أن نعلن الآن فشل كافة الديانات والعقائد السماوية والفلسفات البشرية، لأنه لم يعدم أي منها أناسًا قد فشلوا في تطبيق ما تقضي به بحسب ظنونهم، أو أساؤوا استخدامها لتحقيق مآربهم الخاصة، ناهيك عن عجز المصلحين المخلصين في كثير من المراحل التاريخية البشرية عن تحقيق القيم والمثل التي يؤمنون بها في واقعهم المعيش، لأسباب خارجة عن إرادتهم، أو حتى بتقصير غير متعمد منهم، ويكفي القول بأن بعض الأنبياء سيبعثون يوم القيامة وليس معهم أحد آمن بهم لا عن تقصير بل نتيجة أن دعواتهم صادفت عقولًا منغلقة أو قلوبًا أشد قسوة من الحجارة!

إذا اتفقنا على ذلك فإننا مطالبون الآن بتحديد ملامح الإصلاح وأسسه من خلال منظور حضاري إسلامي يستوعب العالم بأسره، باعتبار أن الإسلام هو دعوة إنسانية ونبيه صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه رحمة للعالمين، لاسيما في هذا التوقيت الذي أزيلت فيه الحدود بين الناس، إلكترونيًا في الحد الأدنى.

وأول هذه الملامح هو التأمل في رسالة الإسلام ومقاصدها؛ هل هي إكراه الناس على عبادة الله وغض البصر عن استعبادهم من قبل بشر أمثالهم بالجبر أو بالغواية؟ أم إنها تستهدف هداية الناس لعقيدة التوحيد بعد أن يبلغوا مأمنهم ويتحرروا من عبادة العباد؟

هل يدعو الإسلام إلى تخريب الأوطان وقتل الإنسان وهدم ما شيده من بنيان، أم أن رسالته هي التوحيد والتزكية والعمران؟

هل يكلف الإسلام دعاته بالسعي لاعتلاء السلطة بأي ثمن أم أنه فرض عليهم –وعلى غيرهم- التجرد و للإصلاح والإخلاص له وعدم انتظار الأجر من البشر بل من ربهم؟

هل الصمود الحقيقي والثبات المنشود الذي طالب به الإسلام، يتجسد في التشبث بامتيازات وسلطات دنيوية زائلة، أم يتمثل في مجاهدة النفس والاصطفاف مع غيرهم من الوطنيين المخلصين في مقاومة المعتدين على عقائد الناس وحرياتهم وحقوقهم الأساسية؟

هل من مقاصد الإسلام الأساسية قطع أرجل الناس وأيديهم، بل ورقابهم إن لزم الأمر، أم أن هذه مجرد وسائل رادعة لحماية دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأنسالهم وأموالهم، وهي لا تنطبق إلا بشروط قد تثير التعجب والدهشة نظرًا للحرص الشديد في إحاطتها بضمانات ضد إساءة استغلالها والتعسف في استعمالها؟!

ألا تدعو قيم الإسلام وثوابته إلى نصرة المظلومين والمستضعفين ومقاومة الاستكبار والاستبداد لا مداهنتهم والتحالف معهم على حساب ضحاياهم، فلِمَ يرضى بعض المصلحين بالدنية في دينهم ويتماهوا مع أعداء الإنسانية وأعدائهم؟!

ألم يقتصر طلب الإسلام من معتنقيه على السعي –الجاد والمخلص- إلى الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا بشرط أن يعضوا بالنواجذ على ثوابت الدين العقيدية والقيمية والأخلاقية، فما بالنا نرى بعض المصلحين يكلفون أنفسهم وغيرهم بما لا يطيقون، ويحرصون على تحقيق نتائج دعواتهم وجني ثمراتها وإلا لجأوا إلى استخدام القوة -في غير موضعها- ضد مخالفيهم، أو إلى الاستسلام لهم والتخاذل حيالهم بل –وأحيانًا- إلى معاونتهم في آثامهم وبغيهم وعدوانهم بحجة الاستفادة منهم في التمكين الإسلام، وكأنه –حاشاه- دين ميكافيللي يتبنى شعار “الغاية تبرر الوسيلة”؟!

هل ركز الإسلام في خطابه بالأساس على السلطة أم على الدولة أم الأمة؟ فما لنا نرى جلَّ المصلحين يتوجهون إلى السلطة ويغفلون عن الأمة مع أنها هي الأصل بينما الدولة فرع، ولن يستقيم الفرع إلا باستقامة الأصل أولا وتمكين جذوره؟!

والواقع أن التساؤلات كثيرة جدا حول المفارقات بين ما يدعو إليه الإسلام حقيقة وبين فهمه ممن يدعوننا إلى الانتصار له وتنزيل أحكامه بأسرها على واقع المسلمين، وهو أمر يستحق المزيد من الدراسات حوله، وحرصت هذه المقالة على أن تثير الأسئلة أكثر من أن تطرح الإجابات، لعلها تنشط العقول، وتسهم في إعادة تحويل بوصلة الإصلاح إلى جوهر الدين لا إلى قشوره، وأن الطريق يبدأ من إعادة فهم الإسلام فهمًا صحيحًا أولا وترتيب أولوياته حسبما تقضي مقاصده الكلية وما يدعو إليه من قيم أساسية يتعين أن يتحلوا بها أولا كي يكونوا خير قدوة للناس فلا يخالفونهم إلى ما ينهون عنه.