تمثل أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية  في كثير من البلاد الإسلامية تحديًا للمسلم الغيورعلى دينه، المستمسك بتعاليمه.

ومن هذه المجالات، مجال استثمار الأموال، فأكثر البنوك المنتشرة في البلاد العربية  بنوك ربوية، وبعض بلدان الوطن العربي لم تسمح إلى الآن  بافتتاح بنوك إسلامية على أراضيها، وبعضها تعمل فيه البنوك الإسلامية على خجل، فهي تشكو من قلة الفروع المسموح لها بإنشائها، في حين تتوسع البنوك الربوية توسعا يضاهي محلات البقالة والخضروات!

وسط هذا الوضع الاقتصادي سنحت فرصة للمستمسكين بدينهم في مجال استثمار أموالهم بعيدًا عن الربا، وعن المشروعات الخاصة التي تحتاج خبرة ووقتا ورؤوس أموال قد لا تتوافر لكثير منهم.

هذه الفرصة، هي الأسواق المالية ( البورصة) لكن الواقع لم يكن على مستوى هذا التفاؤل؛ إذ فوجئ المراقبون للأسواق المالية في البلاد العربية والإسلامية بأن أكثر الشركات المقيدة بالبورصة لا تبتعد عن الاستثمارات المحرمة، إما بمباشرة بعض الأنشطة المحرمة، كشركات إنتاج الدخان والخمور، وكالبنوك وشركات التأمين، وشركات الإنتاج الإعلامي على الوضع الذي لا تخطؤه العين في الإنتاج السينمائي والتلفزيون. وإما بالتعامل بالربا أخذًا أو إعطاء.

فكثير من الشركات تمارس أنشطة مباحة، بل هي الأصل، فالله عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}  [البقرة: 168] فالأنشطة المحرمة من حيث الأصل قليلة؛ ولذلك جاء التعبير عنها بخطوات الشيطان، فمهما بدت طرق الشيطان فسيحة، فإنها مجرد خطوات إذا ما قيست  بالممارسات التي أباحها الله عز وجل.

الصدمة

اقتضى هذا الوضع الاقتصادي المزري من علماء الفقه المالي الدراسة الطويلة والمتأنية، هل يُغلق مجال الأسواق المالية في وجه المسلم المستمسك بدينه؛ كون هذه الشركات تتعامل بالربا مع أن أصل نشاطها مباح، فيغلق على المسلم باب فسيح لاستثمار أمواله، أم أن قواعد الاضطرار ورفع الحرج وعموم البلوى يمكنها أن تفتح الباب ولو جزئيًّا.

فتاوى التحريم

وبعد الدراسة خرجت الفتاوى المجمعية بإغلاق هذا الباب أمام المسلم،  فأفتت  بالحرمة، منها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة السعودية، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني، وعدد من الفقهاء المعاصرين، و المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في نص صريح، جاء فيه: “لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك”.[1]

كما قضى بذلك مجمع الفقه الإسلامي التابع للمنظمة من حيث الأصل، فجاء فيه: “الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربـا ونحـوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة”، ولكن هل يجوز الخروج عن هذا الأصل لحاجة أو غيرها؟ هذا ما لم يبينه المجمع حتى الآن بالرغم من مناقشته المسألة في دورتين لاحقتين على ذاك القرار.

اجتهاد بالإجازة المشروطة

لكن علماء آخرين رأوا أن قواعد رفع الحرج تسعف هذا الواقع الأليم، وهذا الاجتهاد على ما به من انفراجة إلا أنه  يعكس واقعًا مريرا يعيشه المسلم،  وأي مرارة أكبر من أن يُبنى هذا الاجتهاد على قواعد الضرورة والاحتياج وعموم البلوى في البلاد الإسلامية والعربية التي تنص أكثر دساتيرها على الاحتكام إلى الشريعة !

وإذا بني الاجتهاد  الفقهي في البلاد الإسلامية على قواعد الضرورة والاحتياج وعموم البلوى، فعلى ماذا عساه يُبنى في البلاد الأجنبية التي يعيش فيها المسلمون!

وممن يمثل هذا الاتجاه الدكتور علي محيي الدين القره داغي، والهيئة الشرعية لشركة الراجحي، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني، والمستشار الشرعي لدلة البركة، وندوة البركة السادسة. وكثير من العلماء المعاصرين. وقد ذكر الدكتور القره داغي  عددا من أهل العلم القائلين بالجواز، منهم الشيخ عبد الله بن منيع، والشيخ عبد الله بن بيه، والشيخ تقي العثماني، والشيخ وهبة الزحيلي، والشيخ خالد المذكور.

شروط الترخيص

ووضع هذا الاتجاه ضوابط وشروطًا لهذا الترخيص إيمانًا منه بأن هذه الفتوى منهم استثناء لا أصل ، وأنها ضرورة لا سعة، وهذه الضوابط هي:

1- إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك.

2- ألا يتجاوز إجمالي المبلغ المقترض بالربا – سواء أكان قرضًا طويل الأجل أم قرضًا قصير الأجل- (25%)[2] من إجمالي موجودات الشركة، علمًا أن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه.

3- ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم (5%)[3] من إجمالي إيراد الشركة، سواء أكان هذا الإيراد ناتجًا عن الاستثمار بفائدة ربوية أم عن ممارسة نشاط محرم أم عن تملك المحرم أم عن غير ذلك[4]. وإذا لم يتم الإفصاح عن بعض الإيرادات فيجتهد في معرفتها، ويراعى في ذلك جانب الاحتياط.

4- ألا يتجاوز إجمالي حجم العنصر المحرم -استثمارًا كان أو تملكًا لمحرم- نسبة (15%) من إجمالي موجودات الشركة.

وطريق الوصول إلى معرفة الشركات التي ينطبق عليها هذه الشروط هو القوائم المالية التي تصدرها الشركة نفسها، وأما صغار المستثمرين فحسبهم أن يطلعوا على قائمة الشركات المدرجة بصناديق الاستثمار الإسلامية.

الأسهم الأوروبية

إذا روعي في أسهم الأسواق الأوروبية الضوابط السابقة، فلا بأس بالتعامل معها بناء على التفصيل السابق؛ لأن الضوابط السابقة مبنية على قواعد المعاملات المالية من حيث المبدأ. وهذه القواعد هي:  رفع الحرج، والحاجة العامة ، وعموم البلوى، ومراعاة قواعد الكثرة والقلة والغلبة، وجواز التعامل مع من كان غالب أمواله حلالا، والاعتماد على مسألة تفريق الصفقة عند بعض الفقهاء.[5]

ويضاف في الأسواق الأوروبية أن الضابط الأول من شروط التعامل بالأسهم المختلطة، متوفر بها، وهو أن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك.

وإنما كان هذا الضابط متوفرا؛ لعدم وجود أسهم في الأسواق الأوروبية خالية من الاختلاط بحيث تكفي المستثمرين.

ومن هنا أطلق الغيورون على دينهم مؤشر داو جونز الإسلامي في أوروبا وفي غيرها، الذي ينتقي الشركات التي تتوافر فيها الشروط السابقة.


[1] – كتاب قرارات المجمع الفقهي الإسلامي . ص(298). ويؤكد الدكتور علي محيي الدين القره داغي أن عدد الحاضرين  من أعضاء المجمع أثناء هذا القرار كان قليلا، كما ذكر فضيلته أن الشيخ القرضاوي، والدكتور مصطفى الزرقا كليهما قد خالفا قرار المجمع، والمتتبع لتوقيعات أعضاء المجمع يجد أن الشيخ القرضاوي قام بالتوقيع دون إبداء تحفظات، بينما تحفظ الدكتور الزرقا على القرار، ولكن الشيخ  القرضاوي اختار الجواز في كتابه فتاوى معاصرة ج3. ص .

[2] – بعض أصحاب هذا الاتجاه أوصلها إلى (30) %.

[3] – بعض أصحاب هذا الاتجاه أوصلها إلى (10) %.

[4] – بعض أصحاب هذا الاتجاه (مثل هيئة البركة) يقصر الجواز على ما إذا كان النشاط المحرم عبارة عن الإيداع الربوي فقط بالنسبة المحددة، ولا يتسامح في بقية الأنشطة المحرمة مهما قلت النسبة.

[5] – ينظر كتاب المعايير، ص 305