جاء تفصيل وظيفة البلاغ عند النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن وبيان امتداداتها في آيات أخر؛ إذ ورد بيانها في أربع آيات من القران الكريم: في سورة البقرة موضعان، وموضع في سورة آل عمران، وموضع في سورة الجمعة، وترجع صيغها الإجمالية إلى قوله سبحانه وتعالى: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) وقوله عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2) ، وقد فرّعت هذه الآيات وظيفة البلاغ إلى ثلاثة فروع:

‌‌فروع وظيفة البلاغ

‌‌الأول: يتلوا عليهِم آياته

وقدم تلاوة الآيات على سائر الفروع الأخرى في كل الآيات، بل قد انفردت هذه الوظيفة بالذكر في عدد من المواضع كقوله جل جلاله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً} (البينة: 2) ، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ} (الطلاق: 11) ، ويَتْلُوا هنا في موضع نصب نعت لرسول ومعناه يقرأ، والتلاوة القراءة، وآياتِ اللَّهِ يعني القرآن[1] فقوله سبحانه وتعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ} أي يقرأ عليهم أي كتابه وتنزيله [2]

‌‌الثاني: ويعلمهم الكتاب والحكمة

فالكتاب يعني القرآن، ويعني بالحكمة السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيانه له، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط، وقال مالك بن أنس: الحكمة الفقه بالدين [3] ، ولخص بعضهم معاني الحكمة بقوله: والحكمة العلم وقول الحق … وفعله مقترنا بالصدق[4] فالمراد أنه يعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه مقروا ومكتوبا، ويبين لهم تأويله ومعانيه [5] ، و (يعلمهم الكتاب والحكمة) صفة أيضا لـ (رسولا) مترتبة في الوجود على التلاوة [6] ، وكذلك التزكية تترتب في الوجود على التلاوة …

والفرعان الأولان هما مدار هذا الكتاب؛ إذ يتحدث الأول عن التلاوة، والاخر عن تعليم الكتاب تلاوة وكتابة … وبذلك تعلم ألفاظ القران الكريم.

‌‌الثالث: ويزكيهِم

التزكية هي التطهير والزكاة النماء والزيادة فيكون معنى قوله جل جلاله وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك بالله، وعبادة الأوثان، ودنس الكفر والذنوب، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله»، فالتطهير إنما يكون باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم [7] ، فيحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال [8] ، وبذلك «يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان» كما قاله ابن عباس [9] ، وبين ابن كثير– رحمه الله تعالى- الوسيلة العملية لأداء عملية التزكية بقوله: «يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم» [10].

ومعنى الآية إجمالا: «يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات، ويعلمهم القرآن، والحكمة وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة» [11] .

‌‌حكم ترتيب هذه الفروع في المواضع الأربعة

من حِكم ترتيب هذه الفروع في المواضع الأربعة [12] نلحظ أن التلاوة جاءت في الآيات كلها في أول الفروع، ثم اختلف ترتيب الفرعين الآخرين حيث جاء التعليم للكتاب والحكمة أولا في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام في قوله عزّ وجلّ: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 129) ، والدعاء من أساليب الطلب، وجاءت التزكية قبل التعليم في آيات الإخبار في الموضع الثاني من سورة (البقرة: 151) ، و (ال عمران: 16) ، و (الجمعة: 2) ، وقد تجلت من ذلك عدة حكم:

1- جاءت الفروع بهذه الهيئة في الترتيب مع أنها تعود لأمر واحد هو البلاغ المبين لأن المقام مقام تفصيل للنعم المطلوبة أو المرادة في العباد، ويدل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم في مقام يقتضيه كما في قوله تعالى {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} (هود: 58) عقب قوله تعالى {نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} (هود: 58) «والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق في الوحي» [13] .

2- رتّبت بهذا الشكل دلالة على ضرورتها وترتبها في الوجود، والمعلم البارز في الترتيب أن التلاوة جاءت أولا في كل الايات، وذلك لأنها أساس الفرعين الاخرين، إذ حقيقة التعليم للكتاب تلاوة متعدية بإقراء ألفاظه، وتحفيظها وتفهيمها ببيان أحكامه للاخرين، وقد كان معظم تبليغه وكلامه صلّى الله عليه وسلّم تلاوة القران لا يزيد عليه إلا الأقل منه، ويدل على أن ذلك هو أساس وظائفه قوله عزّ وجلّ {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} (النمل: 91- 92) .

3- وجاءت {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} ثانية في الدعاء: لأنها صفة أخرى مترتبة في الوجود على التلاوة، وأخر التزكية لأنها عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة [14] .

4- ويمكن النظر إلى الحكمة في الترتيب في كل سورة على حدة بالنظر إلى طبيعة وصف المخاطبين أو المتكلم عليهم: فلما كان ظاهر دعوته عليه السّلام أن البعث لأمة مسلمة كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية؛ فإن أصلها موجود بالإسلام، فأخر قوله {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة فترتقي بصفائها ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه من أن ترتد على أدبارها، وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها، والتزكية اكتساب الزكاة بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم، «ولما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، وأما تقديمها في ال عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدنيا التي هي أم الأدناس» [15] .

5- ومن حكم الترتيب أن التلاوة عامة لجميع الناس، والتزكية خاصة بمن استجاب للايات فامن بها، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعض المؤمنين [16] .

6- وفي هذا الترتيب يظهر لنا الفرق في عملية تعليم القران (علم القراءة) عن عملية تعليم الأحكام، فعلم القراءة طريقه (التلقي) الذي تشير إليه لفظة يَتْلُوا، وعلم الأحكام أعم من التلقي فقد يكون بالاستنباط مثلا كما تشير إليه لفظة وَيُعَلِّمُهُمُ فرتب «التعليم على التلاوة كما هو الواقع لأن التلاوة أول ما يقرع السمع، والتعليم الذي هو التفهم بعده» [17].

7- ومن الحكم الظاهرة لهذا الترتيب: أن التلاوة للقران يجب أن تكون عامة للناس، وعامة في مجتمع المؤمنين ظاهرة لا يكون أحد من المؤمنين في المجتمع إلا سامعا أو قائما بها … بالقدر الذي يجعل هجران القران المذكور في قول جل جلاله: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) ، منتف عنه.. أما التعليم للكتاب تعليما تفصيليا دقيقا ففرض كفاية يقوم به بعض المؤمنين عن المجتمع كله.

وهذا يقتضي منهجيا من الدولة المسلمة: العمل على إشاعة القران بالوسائل الإعلامية والتوجيهية المختلفة، ومواكبة تطور العصر في هذا السبيل.

‌‌علاقة البلاغ بالتلاوة والتعليم

تقدم أن البلاغ هو الوصف المجمل لوظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويزاد هنا توضيح ذلك:

فالبلاغ هو غاية التلاوة وهو باعث التعليم كما في قوله تعالى {بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) ، ولا يبلغه إلا إذا تلاه، ولا بد من الإبانة في محاور البلاغ الثلاثة: التلاوة، والتعليم، والتزكية … وهذا البلاغ ينبغي أن يبقى متواصلا لكل الأجيال القادمة كما في قوله- تعالى ذكره-: «لأنذركم به ومن بلغ» ، فاقتضى هذا أمورا من حيث العملية التعليمية لألفاظ القرآن الكريم :

– بقاء تلاوته بعد النبي صلّى الله عليه وسلم ليحدث البلاغ

– أن تكون تلاوته بالطريقة ذاتها التي تلاه بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث أداء اللفظ الخارجي ومن حيث أداؤه الداخلي، وإن لم يكن هذا فما بلغت رسالة الله إلى العالمين.

– أن يعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم صحابته طريقة تلاوته للقران الكريم وحفظه وأدائه ليتم ذلك البلاغ المتواصل، وأن يعلمهم صلّى الله عليه وسلّم طريقة التعليم ليعلموا من بعدهم حتى يبقى البلاغ متصلا

وبذا مضى خليل الله الأكرم صلّى الله عليه وسلّم معلم الناس أكرم كلام … وخير هدي ونظام … مضى يجذب القلوب إليه وهو يجري من فمه الطاهر الزكي عسلا مصفى … يتلو … ولتلاوته مذاق لم يتغير طعمه أبد الدهر … فأنى عن حبه يبتعد اللاهون؟ وبمن غيره تستشفي نظرات المتيمين؟

قلبي- وحبّك للقلوب شفاء بهواك يخفق، والهوى استهداء
يا من بعثت مسددا ومؤيدا و «محمدا» ، وزكت بك الالاء

الوحي وحي الله أنت مكانه

وبيانه، وصراطه الوضاء

قرآنه يهدي لأقوم منهج في العالمين، وايه غراء