تقوم الحياة في الإسلام بين العمل والعبادة على قاعدتين أساسيتين أولاهما، القاعدة الروحية:وهي صلة العبد بربه وخالقه، لاحياء روحه وقلبه بأشعة الإيمان ونور اليقين وكشف الغطاء عن فطرته الصافية وإنسانيته النقية، فيعيش في إطار الحب والمراقبة وفي جنبات الطهر والصفاء.وثانيتهما، القاعدة العملية: وهي عمارة الحياة وإصلاحها واستخراج الرزق من ثناياها، والسيرفيها بالحق والخير والعدل والإحسان.والقاعدة الأولى هي وقود الثانية وميزانها ونورها ودستورها القويم الذي لا تزيغ معه الأهواء ولا تشرد به العقول والأفكار، أو تضل به الخطا والدروب.

والقاعدتان في الفكر الإسلامي تشبع في الإنسان ملكاته ورغباته ونزعاته وتخاطب فيه قواه الحيوية وتوجهاته البشرية، فيعمل بكل طاقته وينطلق بكل إمكاناته بغير قصور أو قيود أو سدود أو التواء أو أخطاء. فلارهبانية في الإسلام ولا قعود عن جلائل الأعمال أو إهلاك للطاقات الحيوية والابداعية في الفرد، كما أنه لا عبادة للمادة، ولا إهدار للقيم والأخلاق والمثل ولا مخاطبة للإنسان كحيوان لا يعرف إلا بطنه ولا يهتم إلا بطعامه ولا إطلاق للغرائز بغير قيود أو حدود أو ضوابط.

وإنما توازن يواكب فطرة الإنسان ويحقق رسالته في الحياة ويؤكد خلافته الصالحة فيها، وسطية واعتدال، بدون تفريط في كل ما فيه رفاهية الإنسان وإسعاد حياته : (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) (سورة الفرقان،الآية 67). وإنما تناسق وتوافق واعتدال في المادة وفي الروح وتعايش بين النوازع والملكات.

هذا هو ديننا وتلك هي عقيدتنا.عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) يسألون عن عبادته، فلما أخبروهم كأنهم تقالوها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم:أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني”متفق عليه. أراد هؤلاء الثلاثة القضاء على الحركة الحيوية في الإنسان من ناحيتين خطيرتين، القوى الاقتصادية والبشرية باسم الدين والعقيدة، وفي هذا القضاء على العقيدة نفسها بإضعاف جندها مادياً وبشرياً، وهذا خطأ سارع الرسول عليه السلام الى تداركه وتجاوزه وإقرار القواعد الصحيحة للرسالة السامية والعبادة الصحيحة للمنهج السليم، وقد أشاد الرسول الكريم بالعاملين في حقل الحياة فقال (صلى الله عليه وسلم): “التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء”، وقال :”ما من مسلم سزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيراً أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”.وقال (صلى الله عليه وسلم): “ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده” من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له”.

إن هذا الفكر هو الذي صنع الحضارة الإسلامية الزاهية البراقة وهو الذي هذبها وطوعها في سبيل خير الإنسانية والبشرية وهو الذي يمدها من جديد بالدفء والحيوية والصلاح. فليس الثواب مقتصراً على العباد في المحاريب،وإنما هو في كل مصنع يعطي الإنسانية الخير والسعادة والنفع وفي كل حقل، يمد الناس بالخير والغذاء، وفي كل جهد يعين الناس ويقضي حوائجهم وييسر عليهم حياتهم.

هذا الفكر هو الذي اختلط بالجهد البشري فقضى على غلو المادة وطغيان الشهوات وحب السيطرة والجبروت الذي يرسبه عطاء المادة وقوة الشهوة وتحكم الغرائز. هذا الفكر هو الذي منع الانحراف في فهم معنى العبادة وقلل من دعاوي الابتداع فيها ومن استقرار هذا الابتداع في حياتها وممارستها عن ظهوره أو الجنوح إليه.نعم إنها الأصول الثابتة للفكر الإسلامي التي ترد الإنسان الى مساره الصحيح وتعمل عملها في الحياة.

وفاء حسين