لا شك أن المسلم المعاصر عليه واجبات كثيرة، وبقدر ما يواجه من تحديات جسام.. ومطلوب منه مهمات متعددة، وبقدر ما ينفتح أمامه من ثغرات، وما يوضع في طريقه من عقبات؛ سواء اتصلت هذه العقبات بالداخل الإسلامي وما يكبِّله من خمول وتشتت وضعف نتيجةَ قرون من التعثر الحضاري.. أو اتصلت بالخارج وما يتاح له من سطوة، ومن إمكانات مادية ومعنوية يوظِّفها في فرض نموذجه بالقوة، وفي استعباد الآخرين بالعنف والقهر..!

ويمكن القول بأن ثلاثة مهام رئيسة مطلوبة بإلحاح من المسلم المعاصر، وعليه ألا يتباطأ في القيام بها.. وهي: احتضان التراث، والاشتباك مع الواقع، والتفاعل مع الآخر.

احتضان التراث

التراث هو هويةُ الأمة التي تشكلت من خلالها، وجذورُها التي تمتح منها أسباب الحياة؛ فلا يمكن لأمة- أي أمة- أن تستعيد ماضيها الذي تفخر به ولا أن تبني مستقبلها الذي تؤمله، وهي في حالة انقطاع حضاري عن تراثها.

ونعني بـ”احتضان التراث” هنا أربع خطوات أساسية:

– الاعتزاز به، وعدم الخجل من إعلان ذلك.

– استيعابه بكل أبعاده ومنجزاته، في مختلف العلوم والمجالات.

– غربلته وتحديد الثابت فيه من المتغير، والأصول من الفروع، والصحيح من السقيم.

– الإفادة منه والبناء عليه، واستصحابه وعدم الوقوف عنده.

فالمسلم المعاصر ينبغي أن يتصل اتصالاً وثيقًا بتراثه؛ لغة وفكرًا وأدبًا؛ لأنه إن استجاب لمحاولات فصله عن هذا التراث، فلن يكون إلا مسخًا مشوَّهًا من تجارب الآخرين، ولن يفلح في إنجاز أي نهوض!

ومازال تراثنا قادرًا على العطاء، وسيظل ما كان متصلاً بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية؛ فهما مصدر التلقي والتوجيه للمسلم على اختلاف الزمان والمكان. وبقدر اتصال تراثنا بهذا المنبع تكون أهميته في حياتنا الراهنة.

ولذا، نحن بحاجة لعين مبصرة تميِّز وتفحص وتغربل؛ لنستبقي من هذا التراث ما يصح أن يكون زادًا لحاضرنا ومستقبلنا، وهو- يقينًا- كثير جدًّا.. دون أن ننجرف وراء دعاوى إهالة التراب على التراث؛ بزعم أنه ينتمي للماضي، وأن الزمان تجاوزه!

الاشتباك مع الواقع

لا مناص للمسلم المعاصر من الاشتباك مع الواقع، والتفاعل معه؛ حتى يكون ذا تأثير وإسهام فيه؛ فليس من المعقول أن نطالبه بأن يتحلى بالفعَّالية والحيوية وهو منعزل عن محيطه، غير مدرك بواقعه؛ فكريًّا واجتماعيًّا، وبكل نواحيه المتشعبة.

لقد جاء الإسلام للحياة، ولا يمكن حصره بين جدران المساجد؛ بل إن الإسلام قد جعل المساجد لتكون محطات يتزود منها المسلم لحركته في الحياة، وليس لتعزله عن الحياة! قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10).

وهل وصف الله تعالى كتابه الكريم بأنه تبيان لكل شيء، في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89)، وشرع المعاملات والحدود، وأمر بالعدل والقسط، وتحكيم ما أنزل.. هل جاء كل ذلك ليكون الإسلام محصورًا في مساحة ضيقة من الحياة لا يتخطاها، أم ليظلل بهديه وتوجيهه نشاط الإنسان كافة؛ في نفسه وبيته وسوقه، في عباداته ومعاملاته وخصوماته؟!

وهذا الاشتباك الذي يراد للمسلم المعاصر يَفرض عليه أن يدرك مشكلات الواقع بدقة، وأن يرتب أولوياته فيه بعناية، وأن يفهم جيدًا معادلات الثوابت والمتغيرات، والأصول والفروع، والكليات والجزئيات، والفروض والنوافل؛ حتى لا تختلط الأوراق، وتتشوش المفاهيم؛ فيتقدم ما حقه التأخير، ويتأخر ما حقه التقديم!

التفاعل مع الآخر

لا يستطيع أحد أن ينكر حالة التراجع الحضاري التي يعيشها العالم الإسلامي منذ قرون، وأن الآخرين قد سبقونا في مختلف مجالات الحياة، بآماد طويلة. وإذا استكان المسلم المعاصر لحالة التراجع هذه فسيظل على الهامش لا وزن له ولا تأثير؛ ولن يكون بإمكانه- حينئذ- أن يزعم أنه يعكس الصورة الدقيقة للإسلام الذي ينتمي إليه.

ومن هنا، فلا مفر من التفاعل مع الآخر، والإفادة من تقدمه، والبحث عن الحكمة فيما لديه. لكن من المهم أن ندرك الفرق بين ما يمثل هوية للذات وللآخر، وفيه تقلّ مساحة النقل والاقتباس؛ وما يمثل قاسمًا مشتركًا بين الأمم والحضارات، وهو مجال رحيب للإفادة والتواصل.

هكذا فعل المسلمون إبان نهضتهم الأولى؛ فلم ينقلوا كل تراث الأمم السابقة عليهم، بل أخذوا ما يفيدهم ويتوافق مع ثوابتهم؛ مثل تدوين الدواوين، وعلوم الطب والفلك والرياضيات؛ دون الفلسفات والأديان، التي حين انتقل شيء منها للعقل المسلم بعد ذلك أحدثت له إرباكًا شديدًا.

ولذا، ينبغي أن نقف موقفًا وسطًا بين دعوات الذوبانِ في الآخر، ونقْلِ كل ما لديه من “خير وشر، حلو ومر، ما نحب وما نكره”، كما كان طه حسين يدعو في مرحلة من مراحل حياته.. وبين دعوات الانغلاق، والانعزال، وعدم التعرف على الآخر والإفادة منه، وتسفيه منجزاته.

بهذه الأبعاد الثلاثة- احتضان التراث، والاشتباك مع الواقع، والتفاعل مع الآخر- يستطيع المسلم المعاصر أن يؤدي ما يُطلب منه من واجبات، وأن يواجه ما يُفرض عليه من تحديات، وأن يكون أكثر تواصلاً مع ما انقطع من مسيره الحضاري، وأكثر قيامًا بما يناط به من مسئوليات، في الحاضر والمستقبل.

المسلم المعاصر عليه أن يعتز بتراثه دون أن يَجمد عليه أو يقف عنده متصلِّبًا.. وأن يشتبك مع واقعه دون أن يذوب فيه.. وأن يستفيد مما عند الآخر من علم وحكمة دون أن يقلدهم تقليدًا أعمى..