في القرن التاسع عشر، كانت الجزائر واقعة تحت احتلال فرنسي غشوم، أرهق البلاد وآذى العباد، وفرض ثقافته على الشعب الجزائري العربي المسلم بالسيف والبارود، وسقط من جراء بطشه الوحشي مئات الألوف من الجزائريين شهداء.

كان للفرنسيين طرقهم في بسط السيطرة على أرض الجزائر، وكان لهم جنودهم وعيونهم في تلك الأرض، ومن بين الحيل التي احتالها الفرنسيون لبسط نفوذهم على أرض الجزائر: زرع المستوطنين في تلك الأرض، كي يعيشوا فيها ويخالطوا أهلها، ويكونوا بوجودهم طويل الأمد قفازاً ناعماً على يد الاحتلال الخشنة.

وفي هذا الإطار هاجرت أسرةٌ فرنسية صغيرة مكونة من ضابط متقاعد وامرأة، وولدٍ لتلك المرأة من زوجها المتوفى.. ذاك الولد المدعو “جول جرڤيه” هو بطل هذه المقالة.

في أرض الجزائر العربية نشأ جول، وعاش حياةً شبه عربية، ملأى بالتقشف، وخالط الجزائريين حتى حذق لغتهم فصار كواحد منهم، يسعى سعيهم في الأرض، ويشقى شقاءهم، ولولا شقرته وبياضه البالغ لما فرقت العين بينه وبين الجزائريين.

لكنه كان من الداخل فرنسياً قحاً، منتمياً إلى فرنساً انتماءً يجعله يرى من حقها أن تصنع بالجزائر وشعبها ما تشاء، ويجعل من واجب الجزائريين أن يستسلموا لها ولا يبددوا جهدهم في مقاومتها. وكان بحكم فرنسيته يعيش حياته الخاصة كشاب فرنسي هاوٍ للتصوير الفوتوغرافي الذي كان في بداياته آنذاك.. وقد جعلته هذه الحياة المزدوجة شخصية قادرة على تقمص دورين مختلفين: دور الفتى العربي، ودور الفتى الفرنسي، المنتمي إلى أرضين: يؤمن بواحدة منهما، ولا تؤمن الأخرى به!

يحب جول حياة الشرقيين: أرضهم الترابية، وشمسهم الساطعة، وعقيدتهم البسيطة، واختلافهم وغموض بلادهم في عينيه الغربيتين الغريبتين. ويطالع سير الرحالين الغربيين الذين سبروا غور هذا الشرق المسلم، ويطالع مذكراتهم، فيقرر أن يعيش التجربة بنفسه متى ما سنحت الفرصة، وهو ما حدث بالفعل خلال سنوات قليلة.

يتعرف جول جرفيه إلى رجل جزائري سبق له أن زار مكة المكرمة مراراً وتكراراً، وتسفر المحادثات بين الرجلين عن استعداد صديقه المدعو “الحاج أكلي” لمرافقته إلى مكة المكرمة في حال قرر ذلك! يُسرّ جرفيه بهذه الفرصة التي سنحت له، فسيكون الحاج “أكلي” جرافةً تزيح الكثير من صعوبات الطريق، وتصد الكثير من الصعوبات المتوقعة في المجتمع المسلم الذي لن يتسامح مع النصارى المتسللين إلى مكة.

يعرض جرفيه فكرة رحلته على الحاكم الفرنسي للجزائر، المسيو كامبو، الذي يشجعه على خوض هذه الرحلة المفيدة للاحتلال الفرنسي، ويتم تكليف جرفيه بمهمة خاصة “تجسسية بلفظ أكثر صراحة” لصالح السلطات الفرنسية التي لم تستطع منع المسلمين الذي تحتل أراضيهم من الحج، فقررت أن تستفيد منه وتخترقه.

ينال جول جرفيه جوازاً باسم “عبدالله بن البشير” وينتحل صفة جزائري مسلم، وكلون من التأمين والتهيؤ للطوارئ، يشهر جول جرفيه إسلامه، والله العالم بحقيقة ذلك الإسلام الذي أميل بشدة إلى التشكيك فيه جملةً، لقرائن كثيرة تبدو لمن طالع كتاب جرفيه المعنون بـ: (رحلتي إلى مكة المكرمة).

يذهب جرفيه إلى فرنسا، كي يرتب الأمور كافة ويودع أقاربه قبل الشروع في مغامرته، ثم ينحدر بحراً من فرنسا إلى السويس، ليلتقي بصديقه الحاج “أكلي” وينطلق الاثنان إلى الحجاز بحراً بعد كثير من التعطل والتغير في برنامج الرحلة.

يصل الاثنان إلى جدة، بوابة مكة المكرمة، ويصفها جرفيه بالمدينة التجارية الصخمة، ذات البيوت المتينة والمشربيات الأنيقة التي لا تفلح في تغطية طابع الكآبة والعدم المستولي عليها!

في جدة يواجه جرفيه كثيراً من الشكوك والمخاوف، من الشرطة، ومن الأهالي، وينصحه أحدهم بألا يذهب إلى مكة، لأن مصيره سيكون مريعاً؛ لكن جرفيه يجيبه بإصراره على دخول مكة، لأنه مسلمٌ، وروحه ستكون بين يدي الله!

وسريعاً يغادر جرفيه إلى مكة مع رفيقه الحاج “أكلي” على حمارين جلدين يقطعان المسافة إلى مكة في ليلة واحدة.

لا تفارق الشكوك بعض المكيين، الذين يلجؤون لاختبار إيمان هذا الوافد الأحمر المشكوك في أمره بعرض ماء زمزم عليه، ويخبرونه بعد أن يجتاز الامتحان بنجاح أن النصارى لا يستطيبون طعم زمزم، ولا يستطيعون الإكثار منه…

كما يفعل كل مسلم آخر، يؤدي جول جرفيه مناسك العمرة، ويتردد كثيراً على المسجد الحرام، ويسلي مع جماعة المسلمين ما تيسر من الصلوات المفروضة، ويسكن في دار قريبة للغاية من المسجد الحرام.

وبكاميرته البدائية يتسلل جرفيه إلى أعلى جبل أبي قبيس ليلتقط عدة صور لمكة، ويستكشف السوق في مكة، ويكتب الاقتراحات للسلطات الفرنسية حتى تستطيع أن تخترق سوق مكة المكرمة الضخم والذي تكثر فيه المنتجات القادمة من الهند، إضافة إلى المنتجات المختلفة ذات الماركات الإنجليزية والهولندية والألمانية والإيطالية والقليل جداً من المنتجات الفرنسية، ما يثير أسف جرفيه.

وبعد أن ينهي الرجل مهمته في مكة، ويكتب ما تيسر من معلومات، يغادر إلى جدة، ويستكشفها ثانية بكاميرته، قبل أن يغادرها سراً إلى ينبع، ثم السويس، مبحراً من هناك إلى ميناء مرسيليا الفرنسي.. ويؤلف كتابه “رحلتي إلى مكة المكرمة” والذي يحاول أن يظهر فيه للقارئ الفرنسي إخلاصه لفرنسا، وإن لم ينف إعجابه بالإسلام والمجتمع المسلم.

يواصل جرفيه تجواله، فيذهب في رحلة طويلة إلى بلاد التبت في غرة القرن العشرين، ويكتب كتاباً عن رحلته تلك، ثم يزور الأراضي التركية ثلاث مرات خلال بضع سنوات، ويسافر عبر قطار الحجاز إلى المدينة المنورة، ويقوم بتصوير المسجد النبوي الشريف بكاميرته التي كانت حينها من أعاجيب الزمان، ثم يسافر ثانية إلى الشرق ميمماً الهند، ويعود منها بكتابٍ دوّن فيه خلاصة رحلته إلى تلك الديار. وفي عام ١٩٣١ يغادر الحياة إلى حيث الدار الآخرة، الي سيستبين فيها الجواب القطعي عن ذلك السؤال: هل أسلم جول جيرفيه حقاً؟! أم أسلم حيلة ونفاقاً؟!