في منتصف القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا دولةً واسعة الأرجاء، وإمبراطورية تسيطر على أنحاء شاسعة في مختلف قارات العالم، وتهيمن على عالم السياسة والاقتصاد بنهبها الممنهج لثروات الأراضي التي تحتلها. وكان في وسع المواطنين البريطانيين أن يغادروا موطنهم الأم في شمال القارة الأوروبي ليقضوا جزءاً من أعمارهم حيث شاؤوا من الأراضي التي تحتلها دولتهم في شرق الكوكب أو غربه.

 

في الربع الأخير من عام ١٨٥٤ للميلاد ولد بطل هذه المقالة: جون فراير توماس كين، لوالدٍ يعد من رجالات الكنيسة الإنجليزيين، وقد غادر هذا القس مدينته “وينبي” في بريطانيا، ليصبح كبير الكهنة المرتلين في كاتدرائية كالكوتا بالهند، التي كانت واحدة من البلدان التي عانت من الاحتلال الإنغليزي أيما معاناة.

كان جون كين صبياً شقياً، يهرب من المدرسة كثيراً، ويخوض الكثير من المغامرات، تلك السمة التي لازمته بقية حياته!

ومنذ عمر مبكر جداً، التحق جون بالحياة البحرية، وكان صبياً لم يبلغ الحلم حين صار بحاراً يمتلك خبرة لا يستهان بها في عالم البحر.

في كالكوتا التي انتقلت إليها أسرة جون، أمضى والدُه القس وقتاً غير قليل في تعلم اللهجات المحلية بالمدينة، وحذق عدداً من تلك اللهجات، ويبدو أن تلك الملكة انتقلت إلى جون، الذي أتقن اللغة الهندية كذلك، وصار قادراً على الحياة بين الهنود كما يعيشون، علاوة على قدرته على العيش كما يعيش البريطاني الأصيل.

كان العمل في البحر مصدر دخل جون، وإن اختلفت طبيعة العمل حسب الظروف، فقد أتيح له أن يعمل بحّاراً، ويتدرج في مراقي المهنة، كما أنه خدم في البحرية البريطانية ضابطاً في سفينة بريطانية تحمل طاقماً من المسلمين.

كانت المعيشة لعدة سنوات بين ظهراني المسلمين، سواء في السفينة التي يعمل بها، أو في كالكتا التي تضم الكثير من المسلمين، دافعاً لجون كي يتعرف على الإسلام ولو لم يؤمن به قط، وبنزوعه النفسي إلى المغامرة؛ يقرر جون أن يكون واحداً من الأوروبيين القلائل الذين اخترقوا مكة المكرمة، خاصة وأن كتاب الرحالة “بورتون” الذي دخل مكة متنكراً، قد طبع وذاع في الناس!

كان جون كين يريد أن يُعرف باعتباره رحالةً من طراز فريد، وبعد تفكير طويل، وجد أنه لا بد له من الإقدام على مغامرة ضخمة مثل اقتحام مكة المكرمة، ثم توثيق تلك المغامرة في كتاب سينال شهرة واسعة حسب تخمينه!

ولذلك، دسّ جون نفسه في حاشية أمير هندي ثري متوجه إلى الحجاز، لزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة، في عام ١٨٧٧ وصل الركب جدة، وزار جون القنصل البريطاني بها، وأطلعه على نيته دخول مكة المكرمة متخفياً كمسلم في حشود من الحجيج قدّرت بمئتي ألف حاج في تلك السنة.

سارت قافلة الأمير الهندي، وكان جون واحداً من أفرادها، بملابس الإحرام، في هودج يحمله جملٌ هزيل، وكان هتاف الحجيج من حول جون بالتلبية يزعجه، حتى ليصفه بالنشاز الصاخب، وبين تلك الوفود المؤمنة، أخذ جون يستخدم ما وصفه بموهبته في التمثيل والتمويه ليبدو واحداً من المتوضئين والمصلين، متخذا لنفسه اسم “محمد أمين”.

في دار تطل على المسجد الحرام نزل الأمير الهندي وحاشيته، كان شهر رمضان قد دخل، وكان على جون أن يتظاهر بالصوم كذلك! يقول جون واصفاً نفسه: “لا أخفيكم أن القيام برحلة كتلك كان عملاً طائشاً دنيئاً، ولقد عانيت كثيراً من تأنيب الضمير وشعرت بمدى نفاقي ومداهنتي… لقد أتقنت تمثيل المسرحية، وحبكت الأمر بطريقة تجعلني أنا نفسي أصدقها”.

عاش جون عدة أشهر في مكة، وتجول فيها وفي محيطها، ووصف مجتمعها وحياتها النباتية والحيوانية، كما وصف المسجد الحرام وصفاً وافياً، قضى هناك بقية رمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة، وذهب برفقة الأمير لأداء مناسك الحج، قبل أن تتجه القافلة إلى المدينة المنورة، في رحلة خطرة، تعرض فيها جون لإصابة بليغة بعد هجوم مباغت من أحد الأعراب، وبعد العلاج على يد طبيب محلي؛ استمرت القافلة في سفرها البطيء حتى بلغت طيبة الطيبة، التي وصفها جون وصفاً جميلا:

“يا له من منظر للحاج القادم من مكة المنهك تعباً وإعياءً بأن يرى تلك الجوهرة المشرقة في وسط الصحراء الواسعة الكالحة، لقد كان ذلك المشهد بمثابة تناغم رائع لقطعة نادرة من لآلئ وأحجار كريمة منظومة بتناسق في إطار من المينا الخضراء اللامعة، يا لها من لحظة نادرة، وبالنسبة إلى العديد منا كان حلم حياته يتحقق أمام عينيه، وها هي تقف شامخة بهدوء في وسط ذلك السهل الفسيح تحت مرمى الأنظار مباشرة…”

قضى القوم في المدينة المنورة عشرة أيام، قبل العودة ثانية إلى مكة المكرمة، لأداء مناسك العمرة ثم العودة إلى الهند.

على ظهر السفينة المكتظة العائدة من جدة إلى ميناء بومباي، كان جون كين سعيداً؛ فقد حانت اللحظة ليتخلص من قناع الإسلام الذي ارتداه نصف سنة، قبل الوصول إلى بومباي بيومين تخلص جون من مظهره الإسلامي، حلق ذقنه، ورمى بملابسه الشرقية مستبدلاً بها ملابس بحّار إنغليزي، “دون أن يشك أحد بأن البحّار الإنكليزي الشاب الذي تناول تلك الليلة على الغداء لحم خنزير بارد… هو نفسه ذلك المسلم المتفاني في إسلامه الذي كان بينهم منذ بضعة أسابيع مضت”.

وصل الركب إلى الهند، وقضى جون هناك بعض الوقت قبل أن يسافر إلى بريطانيا وينشر بها كتابه “ستة أشهر في الحجاز”، ويعيش بعد ذلك حياة ملأى بالترحال والتنقل بين البلدان المختلفة: البرازيل، والهند، والصين، وبورما، وأستراليا، قبل أن يغادر الحياة عام ١٩٣٧ للميلاد..