خصص النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يسن الدعاء بها تكون سببا في نيل المغفرة مما يقع في مجالسه من الزلات أو الهفوات، فإن الإنسان حين يكثر كلامه في مجلس الناس فإنه لا بد أن يقع منه خطأ تهاونا غير مقصود، وهذا دليل على ضعف الإنسان وقلة حيلته، ومهما تماسك على نفسه وحاسب كلماته فإنه لن يقدر على إدراك موضع الخطأ إلا علام الغيوب، وهناك حالات تعتري الإنسان وتتغلب عليه أوصافها، نحو حالات الرضا أو الغضب أو المزاح أو الجدية.. وغيرها تؤثر على نفسياته وما ينطق به، ومن قبيل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200]، فالنزغ هو وسواس يدخل على النفس، ومن هنا يسن للمسلم أن يلجأ إلى الاستغفار والذكر، بدعاء كفارة المجلس حين القيام عنه.

ويؤكد على هذا المعنى ما جاء في الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة”  رواه أبو داود، فقد شبه حالة القيام من المجلس الذي يوجد فيه الذكر بمثل جيفة الحمار المنتنة لما ينال من الوزر والإثم، وهذا مبالغة في التنفير عن الغفلة. ويكره القيام من المجلس مهما يكن سببه قبل أن يذكر الله تعالى.  

ومن الأدعية الثابتة في كفارة المجلس ما يأتي:

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» . رواه أبو داود ، والترمذي، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب .

2- وجاء في رواية أخرى من حديث أبي برزة رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بأخَرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: “سُبْحَانَكَ اللهم وَبحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ أنتَ، أستغْفرُكَ، وأتُوبُ إلَيْكَ”، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقَول قولاً ما كنتَ تقوله فيما مضى، قال: “ذلكَ كَفَارَةٌ لِمَا يَكُونُ في المَجْلِسِ” ورواه الحاكم في “المستدرك” من رواية عائشة رضي الله عنها وقال: صحيح الإسناد

والمقصود باللغط هو الكلام الذي فيه جلبة واختلاط، وإنما ترتب على هذا الذكر مغفرة ما كسب في ذلك المجلس لما فيه من تنزيه الله سبحانه والثناء عليه بإحسانه والشهادة بتوحيده، ثم سؤال المغفرة منه وهو الذي لا يخيب سائلاً صادقًا.

فالله عز وجل يغفر له ما كان في مجلسه ذلك من اللغط أي: من كثرة الكلام فيما يعني وفيما لا يعني، والإنسان يحاسب نفسه على ما يتكلم به، فإذا جلس في مجلس مع الناس فالأصل أن المؤمن يعلم أنه ما خلق إلا لعبادة الله سبحانه، والأصل أن يذكر الله سبحانه، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا جلس في المجلس فضحك كثيراً وكثر كلامه ناسياً.

وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدعاء بأنه (كفارة لما يكون في المجلس)، وذلك في رواية أخرى عن أبي برزة كما سبق.

3- الحديث الآخر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا» . رواه الترمذي وإسناده حسن. 

وجدير بنا أن نفهم المقصود بهذا الدعاء كما جاء في شرح النووي لابن عثيمين:

– قوله (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك)، اقسم بمعنى قدر والخشية هي الخوف المقرون بالعلم لقول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.

– وقوله: (ما تحول به بيننا وبين معصيتك) لأن الإنسان كلما خشي الله عز وجل منعته خشيته من الله أن ينتهك محارم الله ولهذا قال: ما تحول به بيننا وبين معصيتك.

– ثم قال: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) يعني واقسم لنا من طاعتك ما تبلغنا به جنتك فإن الجنة طريقها طاعة الله عز وجل، فإذا وفق العبد لخشية الله واجتناب محارمه والقيام بطاعته نجا من النار بخوفه، ودخل الجنة بطاعته.

– وقوله: (ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا) واليقين هو أعلى درجات الإيمان لأنه إيمان لا شك معه ولا تردد، تتيقن ما غاب عنك كما تشاهد ما حضر بين يديك، فإذا كان عند الإنسان تاما بما أخبر الله تعالى به من أمور الغيب فيما يتعلق بالله عز وجل أو بأسمائه أو صفاته أو اليوم الآخر أو غير ذلك، وصار ما أخبر الله به من الغيب عنده بمنزلة المشاهد فهذا هو كمال اليقين.

– وقوله (ما تهون به علينا مصائب الدنيا) لأن الدنيا فيها مصائب كثيرة لكن هذه المصائب إذا كان عند الإنسان يقين أنه يكفر بها من سيئاته ويرفع بها من درجاته إذا صبر واحتسب الأجر من الله هانت عليه المصائب وسهلت عليه المحن مهما عظمت، سواء كانت في بدنه أو في أهله أو في ماله ما دام عنده اليقين التام، فإنها تهون عليه المصائب.

– وقوله (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا) تسأل الله تعالى أن يمتعك بهذه الحواس السمع والبصر والقوة ما دمت حيا، لأن الإنسان إذا متع بهذه الحواس حصل على خير كثير، وإذا افتقد هذه الحواس فاته خير كثير، ولكن لا يلام عليه إذا كان لا يقدر عليها.

قال في «الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية» (6/ 173):

« قوله (متعنا بأسماعنا وأبصارنا) أي لأنهما طرائق الدلائل الموصلة لمعرفة الله تعالى وتوحيده من البراهين المأخوذة إما من الآيات المنزلة وطريق ذلك السمع أو من الآيات في الآفاق والأنفس وطريق ذلك البصر. قوله: (وقوتنا) أي قوة قلبنا الذي عليه مدار إيماننا أو المراد قوة سائر قوانا من الحواس الظاهرة والباطنة وباقي الأعضاء البدنية أي متعنا بذلك مدة إحيائنا».

– قوله (واجعله الوارث منا) يعني اجعل تمتعنا بهذه الأمور السمع والبصر والقوة الوارث منا يعني اجعله يمتد إلى آخر حياتنا حتى يبقى بعدنا ويكون كالوارث لنا،م وهو كنايه عن استمرار هذه القوات إلى الموت.

– قوله (واجعل ثأرنا على من ظلمنا) يعني اجعلنا نستأثر ويكون لنا الأثرة على من ظلمنا بحيث تقتص لنا منه، إما بأشياء تصيبه في الدنيا أو في الآخرة.

قال ابن عثيمين: ولا حرج على الإنسان أن يدعو على ظالمه بقدر ظلمه، وإذا دعا على ظالم بقدر ما ظلمه فهذا إنصاف، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعوة المظلوم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن وبين له ما يدعوهم إليه فقال: (فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) لأن الله تعالى حكم عدل ينتقم من المظالم إذا رفع المظلوم الشكوى إليه، فإذا رفع المظلوم الشكوى إلى الله انتقم الله من الظالم، لكن لا يتجاوز في دعائه فيدعو بأكثر من مظلمته، لأنه إذا دعا بأكثر من مظلمته صار هو الظالم.

– وقوله (وانصرنا على من عادانا) وأكبر عدو لنا من عادانا في دين الله من اليهود والنصارى والمشركين البوذيين والملحدين والمنافقين وغيرهم هؤلاء هم أعداؤنا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال الله في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، فتسأل الله تعالى أن ينصرك على من عاداك وينصرك على اليهود والنصارى والمشركين والبوذيين وجميع أصناف الكفرة والله سبحانه وتعالى هو الناصر {بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.

– وقوله (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا) المصائب في الحقيقة تكون في مال الإنسان بأن يحترق ماله أو يسرق أو يتلف فهذه مصيبة، وتكون أيضا في أهل الإنسان فيمرض أهله أو يموتون، وتكون في العقل بأن يصاب هو أو أهله بالجنون، نسأل الله العافية، وتكون في كل ما من شأنه أن يصاب به الإنسان، ولكن أعظم مصيبة هي مصيبة الدين نسأل الله أن يثبتنا على دينه الحق، فإذا أصيب الإنسان بدينه والعياذ بالله فهذه أعظم مصيبة.

والمصائب في الدين مثل المصائب في البدن هناك مصائب خفيفة في البدن كالزكام والصداع اليسير وما أشبه ذلك.

وهناك مصائب في الدين خفيفة كشيء من المعاصي وهناك مصائب في الدين مهلكة مثل الكفر والشرك والشك وما أشبه ذلك هذه مهلكة مثل الموت للبدن، فأنت تسأل الله ألا يجعل مصيبتك في دينك.

أما المصائب التي دون الدين فإنها سهلة فإن المصاب من حرم الثواب نسأل الله العافية.

– قوله (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا) فلا تجعل الدنيا أكبر همنا بل اجعل الآخرة أكبر همنا ولا ننسى نصيبنا من الدنيا، فلا بد للإنسان من الدنيا، لكن لا تكون الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، بل يسأل الله أن يجعل مبلغ علمه علم الآخرة.

أما علم الدنيا وما يتعلق بها فهذه مهما كانت فإنها ستزول، يعني لو كان الإنسان عالما في الطب، عالما في الفلك، عالما في الجغرافيا، عالما في أي شيء من علوم الدنيا فهي علوم تزول وتفنى، فالكلام على علم الشرع علم الآخرة فهذا هو المهم.

– (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) لا تسلط علينا أحدا لا يرحمنا من خلقك.. لأن الذي يرحمك لا ينالك منه السوء.

فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام إذا جلس مجلسا يقول هذا الذكر لكنه ليس بلازم، وإنما المقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك كثيرا.